كتب التراث القديم تفننت في الحديث عن الشخصيات والبلدان والأماكن منه ما كان نقلاً للحقيقة والواقع وأغلبه أساطير تروى وتدون، من ذلك أسطورة زرقاء اليمامة التي قادتنا إلى الطب النبوي وإلى العلم الحديث.
كتاب العقد الفريد، أو العقد أتى على ذكر زرقاء اليمامة حيث أورد فيها:
«زَرقاء بني نُمير: امرأة كانت باليمامة تُبصر الشَعَرةَ البيضاء» في اللبن، وتَنْظُر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تُنذر قومها الجُيوش إِذا غَزَتهم، فلا يَأتيهم جَيْشٌ إلا وقد استعدُّوا له، حتى احتال لها بعضُ مَن غزاهم، فأمر أصحابَه فقطعوا شجراً وأمْسكوه أمامهم بأيديهم، ونظرت الزَرقاء، فقالت: إنِّي أرى الشجر قد أقبل إليكم؛ قالوا لها: قد خَرِفْت ورَقّ عقلُك وذَهَب بصرُك، فكذَّبوها، وَصبِّحتهم الخيلُ، وأغارت عليهم، وقُتلت الزَّرقاء. قال: فَقوَّرُوا عَينيها فوجدوا عُروق عينيها قد غرِقت في الإثمد من كثرة ما كانت تَكْتحل به»
كذلك كتاب آثار البلاد وأخبار العباد:
«زرقاء اليمامة، كانت ترى الشخص من مسيرة ثلاثة أيام، ولما سار حسان نحو جديس قال له رياح بن مرة: أيها الملك إن لي أختاً مزوجة في جديس واسمها الزرقاء، وإنها زرقاء ترى الشخص من مسيرة يوم وليلة، أخاف أن ترانا فتنذر القوم بنا. فمر أصحابك ليقطعوا أغصان الأشجار وتستروا بها لتشبهوا على اليمامة. وساروا بالليل فقال الملك: وفي الليل أيضاً? فقال: نعم! ان بصرها بالليل أنفذ! فأمر الملك أصحابه أن يفعلوا ذلك، فلما دنوا من اليمامة ليلاً نظرت الزرقاء وقالت: يا آل جديس سارت إليكم الشجراء وجاءتكم أوائل خيل حِمْيَر. فكذبوها فأنشأت تقول:
خذوا خذوا حذركم يا قوم ينفعكم
فليس ما قد أرى مل أمر يحتقر
إني أرى شجراً من خلفها بشرٌ
لأمرٍ اجتمع الأقوام والشّجر
فلما دهمهم حسان قال لها: ماذا رأيت? قالت: الشجر خلفها بشر! فأمر بقلع عينيها وصلبها على باب جو، وكانت المدينة قبل هذا تسمى جواً، فسماها تبع اليمامة وقال:
وسمّيت جوّاً باليمامة بعدما
تركت عيوناً باليمامة همّلا»
وقد دعيت بالزرقاء لزرقة عينها. فهل لزرقة العين ارتباط بحدّة الابصار؟ أم أنه الاستبصار؟ حيث في نظر «علم نفس الخوارق» تعتبر قوة إبصار زرقاء اليمامة واقعة محتملة الحدوث لا مجال للمبالغة أو الخرافة فيها لأنه يمكن لعقل أن يتصل بعقل آخر، أو يتصل بموجودات ومخلوقات أخرى دون واسطة، كما ويمكنه تخطي المسافات، كذلك التأثير على الجمادات والحيوانات وهو ما يسمى بعلم الباراسيكولوجي Parapsychology وقد اطلع ابن القيم على هذا العلم في كتابه الروح. وفي حالة زرقاء اليمامة الأقرب إليها: الاستبصار هو القدرة على رؤية الأشياء من بعد دون الاعتماد على أمور مادية محسوسة. وذكر بعض الباحثين أن القدرة التي امتازت بها زرقاء اليمامة هي قدرات ذهنية تتجاوز الزمان والمكان وقوانين الفيزياء المعروفة في المادة والطاقة يطلق عليها الحاسة الزرقاء. رغم وجود مشككين لحقيقة ما ذهبوا إليه. وفي هذه القدرة -أيضاً- كتب الزميل: فهد عامر الأحمدي: «...قبل اختراع الكهرباء وظهور المصابيح الضوئية كانت الأعين البشرية تملك (الليل بطوله) للتأقلم مع الظلام الدامس ورفع مستوى استقطابها للضوء.. وأفترض أن قدرة الشبكية في التعامل مع الضوء الخافت يرتفع بتكرار وجودها فيه، في حين يرفع تكرار الرؤية الليلية من قدرة الدماغ على إدراك وتفسير ما يراه دائما في هذه الظروف (وهو ما نلمسه جلياً لدى سكان البادية مقارنة بسكان المدن الذين يعيشون معظم حياتهم تحت الأضواء الصناعية»!!.
لو رجعنا للذي أتيت عليه الكتب أعلاه في شأن زرقاء، وجدنا إشارة إلى (الإثمد). فـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ مِنْ خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الاِثْمِدَ إنّهُ يَجُلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشّعَرَ» قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اكتحل يكتحل في اليمنى ثلاثة يبتدئ بها ويختم بها وفي اليسرى ثنتين [رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد وقال الترمذي: حديث حسن]. عن ابن عباس أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اكتحلوا بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر» [رواه الترمذي وحسنه وابن ماجة، وصححه ابن حيان]. قال ابن حجر: والإثمد حجر معروف أسود يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز وأجوده ما يؤتى من أصفهان. وفي هذه الأحاديث استحباب الكحل بالإثمد للرجال وللنساء قال ابن سينا عن الإثمد إنه يحفظ صحة العين ويذهب وسخ قروحها. وقال العلامة البغدادي: الإثمد ينبت الهدب ويحسن العيون ويحببها إلى القلوب ولا يوافق الرمد الحارّ، وقال الكحال ابن طرخان: هو أجود أكحال العين لا سيما للمشايخ والذين ضعفت أبصارهم إذا جعل فيه شيء من المسك. قال السندي: قوله: «الإثمد» بكسر همزة وسكون مثلثة وميم مكسورة قيل: هو الحجر المعروف للاكتحال وقيل: هو كحل أصفهاني «يجلو» من الإجلاء أي يزيده نورا «وينبت» من الإنبات «الشعر» بفتح العين شعر أهداب العين. ويؤكد الدكتور حسن هويدي أن جلاء البصر بالإثمد إنما بتأثيره على زمر جرثومية متعددة، وبذلك يحفظ العين وصحتها، إذ إن آفات العين التهابية جرثومية، وعندما تسلم الملتحمة من الاحتقان يمكن أن يكون البصر جيداً. ويقول إن إنباته للشعر ثابت علمياً، إذ إن من خصائص الإثمد الدوائية تأثيره على البشرة والأدمة فينبه جذر الشعرة ويكون عاملاً في نموها، لذا يستعملون مركباته (طرطرات الإثمد والبوتاسيوم) لمعالجة بعض السعفات والصلع، تطبق على شكل مرهم بنسبة 2 _ 3 %. وهذه الفائدة في إنبات الشعر تنفع العين أيضاً لأنها تساعد على نمو الأهداب التي تحفظ العين وتزيد جمالها. يقول الدكتور محمود ناظم النسيمي: «فقد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم كحل الإثمد لأنه يقوي بصيلات أهداب العين فيحفظ الرموش فتطول أكثر، وبذلك تزداد قدرتها في حفظ العين من أشعة الشمس و في تصفية الغبار و الأوساخ، فتزيد الرؤيا وضوحاً وجلاء أكثر منها في استعمال الأكحال الخلية من الإثمد». وفي شأن أول مستخدم له، ذكر أن أول من اكتحل به امرأة يقال لها اليمامة ذكرها الإمام أبى جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخ الأمم والملوك.. حيث مما ورد فيه بعد الإغارة على قومها أن حسان أتى باليمامة ابنة مرة فأمر بها ففقئت عيناها فإذا فيها عروق سود فقال لها ما هذا السواد في عروق عينيك قالت حجير أسود يقال له الإثمد كنت أكتحل به وكانت فيما ذكروا أول من اكتحل بالإثمد.
فهل الذي ذكر في شأن زرقاء اليمامة أحاديث تروى للتسلية وأساطير تُكتب؟ ماذا عن الاستبصار كونه علم ضمن (علم نفس الخوارق) وإمكانية حدوثه؟ وهل الإثمد يملك إمداد العين هذه القوة البصرية التي ظهرت بها زرقاء اليمامة؟!.
bela.tardd@gmail.com -- -- p.o.Box: 10919 - dammam31443Twitter: @Hudafalmoajil