عندما كنت على مقاعد الدراسة الجامعية قبل عشرات السنين كان أستاذ صحة البيئة والطب الوقائي في هايدلبرغ الألمانية يستهل محاضراته مع بداية كل فصل دراسي بهذه الجملة: «إذا أردت الحكم على درجة التحضر عند شعب ما، فما عليك سوى معرفة كيف يتخلص الناس هناك من مخلفاتهم ومدى التزامهم بالطابور». أكثر الطلاب كانوا يتضاحكون على افتتاحيته لأنهم اعتبروها مبالغة مقصودة لإعطاء مادته العلمية مزيدا من الأهمية التي تفتقدها عند الطلاب مقارنة بمحاضرات الباطنة والجراحة والأطفال وطب النساء والتوليد إلى آخر المواد الرئيسية في العلوم الطبية. الأرجح أن ذلك الأستاذ العملاق في مادته شديد الجاذبية في شخصيته قد مات لأنه كان حينذاك قد تخطى الستين، لكن جملته الافتتاحية مازالت تذكرني به عندما أنظر في واقعنا المحلي بمقاييسه.
أعتقد أن أكثر ما يدهش الزائر الغريب في ألمانيا لأول مرة هو نظافة دورات المياه عندهم أينما حل وارتحل، سواء في مدينة ضخمة أو قرية نائية. كل شيء في دورات المياه عندهم يلمع كأنه جديد لم يستعمل بعد، نهارا أو ليلا، من بداية استقبال أول زبون في الصباح إلى آخر زبون يغادر في الليل. المسألة تبدأ في المطارات والمنافذ البرية والبحرية، مما يجعل الضيف الغريب يعتقد أن الألمان يريدون تقديم صورة حسنة مبالغ فيها عن بلدهم. سرعان ما يزول هذا الاعتقاد السلبي حينما يتوغل داخل ألمانيا من أقصاها إلى أقصاها. في الفنادق والبنسيونات والمطاعم، في محطات المواصلات بأنواعها، كذلك في دورات المياه العامة في الشوارع، في المعاهد والجامعات والمدارس وفي قطارات الأنفاق تحت الأرض، باختصار من الصعب أن تدخل دورة مياه واحدة عندهم فتضطر إلى حبس ما في داخلك وتنصرف بحثا عن أخرى. كذلك طريقة التخلص من المخلفات غير الآدمية عندهم نموذجية. المقصود هنا نفايات المنازل والمطاعم والمؤسسات والمصانع. إضافة لكونها نموذجية لضمان نظافة الشارع والحي والجو العام فهي سهلة التطبيق أيضا. أقترح ابتعاث كل المسؤولين عن صحة البيئة عندنا في دورات تدريبية لعدة أسابيع إلى هناك لعلهم يخجلون من أنفسهم ومن الأوضاع التي يضطروننا إلى التعايش فيها مع المجاري الطافحة في الشوارع وصهاريج الشفط وحاويات البلدية الفائضة بالقذارة وروائح الشوارع التي تزكم الأنوف.
أما مسألة احترام الطابور كمؤشر ذكره الأستاذ عن مدى تطور الشعوب فتلك مسألة يحز في النفس التعرض لها محليا. القوم في بلاد ذلك الأستاذ العجوز أساتذة في احترام الأنظمة واللوائح والعقود الاجتماعية، وعندنا أساتذة في التعدي عليها وعدم الالتزام بها.
الأمور في الظواهر المذكورة أعلاه (التخلص من المخلفات والفضلات واحترام الطابور) في بقية البلاد الأوروبية تتجه إلى الأسفل قليلا لكن ليس كثيرا. الاختلاف يصبح فلكيا كلما اتجهنا إلى الجنوب، ويهمنا من الجنوب الوطن الذي نعيش فيه. دورات المياه عندنا في المنافذ الجوية والبرية والبحرية ليست دورات مياه بل مستنقعات ومزارع بكتيريا وفطريات. الوضع في أماكن الوضوء ودورات المياه الملحقة بالمساجد لا تقل سوءا. نفس الخدمات في المطاعم مجرد تجمعات سكانية نموذجية للصراصير والفئران. أكثر ما يثير الغثيان والحنق وضع دورات المياه في المدارس، وعلى مستنكر هذه التهمة زيارة أقرب مدرسة في حيه لكن عليه أن لا ينسى الكمامة. أما في مسألة التخلص من المخلفات الغذائية والردميات والبناء والحفر والتجريف والأسواق التجارية فالأمر ما ترون وتشمون لا ما تسمعون.
توقفت قبل فترة في إحدى محطات الطرق البرية للضرورة القصوى. لم أستطع إتمام المهمة فاتجهت بالسيارة إلى عرض الصحراء. تذكرت في تلك الخلوة الصحراوية ما كان أستاذي القديم يفتتح به كل فصل دراسي عن صحة البيئة: «إذا أردت الحكم على درجة التحضر عند شعب ما، فما عليك سوى الاطلاع على طريقة تخلصه من نفاياته والتزامه بالطابور».