يعتقد ابن خلدون أن «العصبية» أمرٌ لا بد منه لقيام الدولة، ويرى في «العصبية» ذلك الالتحام الذي يكون بين القبائل أو الأحلاف والولاءات، أو غير ذلك من بواعث التكتل التي تقود للمقاتلة في سبيل الحكم وقيام الدولة؛ فهو يعتقد أن التلاحم «العصبية» ضروري، ويستوجب التنادي للمناصرة والمطالبة بالحكم والمغالبة في سبيل تحقيقه. ويرى أيضاً أن من أقوى هذه الروابط وأسماها رابطة الدين؛ حيث إنه إذا ارتبطت «العصبية» الناجمة عن البواعث السالفة بالدين فإنه لا يقف في وجهها شيء؛ إذ إن الدين يشذب «العصبية»، ويذهب عن أهلها التحاسد والتنافس، ويوحدهم، ويسمو بهم نحو غايتهم العليا.
وفي الحقيقة أن ابن خلدون قد استوفى في مقدمته شرح أسباب وكيفية وصول فئة ما إلى السلطة على حساب فئة أخرى، ثم ماذا يحدث لها عندما تصل إلى الحكم ويشتد عودها، ثم كيف تهرم وتشيخ ومن ثم كيف تنهار.
في ثوراتنا العربية الحديثة رأينا أن شعباً بأكمله تكتّل «عصبة واحدة»، وأسقط النظام عندما يئس وأيقن أنه لا يمثل إلا نفسه والفئة التي اصطنعها وميزها لأسبابه الخاصة. إنها نظرية ابن خلدون حول دور «العصبية» في نشوء الدول وسقوطها، على اعتبار أن «العصبية» عندما يمارسها الحاكم ستكون مدعاة لنشوء «عصبية» أخرى مضادة، وفي وقت تكون فيه «العصبية» السالفة قد تراخت بحكم النواميس الربانية. وما يميز عصرنا الحاضر فيما يتعلق بالنظرية الخلدونية هو أن مجالها بات أوسع، وحجم تكتلها أضخم، والاستجابة لدوافعها أسرع وأثرها أعمق. ولهذا فإنني أؤكد قبل أن أبدأ ألا مناص للحكومة الرشيدة عندما تستقر من أن تتخلص من ربقة «العصبية»؛ حتى تمثل الشرعية الحقة للجميع. فمن الضرورة بمكان أن يكون الحاكم على مسافة واحدة من فئات شعبه؛ فتمتد بذلك أسباب بقاء دولته حين يُميت أي ذريعة لخلق «عصبية» جديدة.
من المعتقدين بنظرية ابن خلدون الدكتور محمد الجابري؛ حيث يسقطها في عصرنا الحاضر، ويرى أن التكتلات الحديثة تعتبر بجميع صورها «عصبية» حين يسعى منتسبوها لتحقيق أهداف معينة؛ حيث يجسّد انتماؤهم لتكتل ما شعوراً قوياً بالتضامن، يشتد وقت الخطر. ولهذا فالأحزاب السياسية في نظر الجابري شكل من أشكال هذه «العصبية»، ومنها الجيش «المؤدلج» عندما يتحول إلى حزب أو شبه حزب. وهنا سأستدعي وبقوة الحالة السورية مثالاً على ذلك. فوجود رابطة بين فئة من الشعب السوري، تدفعهم حين الإحساس بالخطر إلى التعاضد والتضامن ضد بقية أبناء الشعب، هي شكل من أشكال «العصبية»، التي يمارسها النظام في سوريا. فهناك تُمارَس «العصبية» من خلال الحزب الواحد «البعث» المتفرد بكل شيء على اعتبار أنه «عصبة الأسد»، علاوة على وجود الجيش المؤدلج بعثياً، الذي نستطيع وصف قياداته بأنهم «خاصة الخاصة».
وللانتقال إلى الشطر الآخر من عنوان المقال فإن سقوط الحكومة أمرٌ حتمي إذا ساء الوضع كما هو الحال في سوريا. فعندما تصبح الدولة ومقدراتها حكراً لفئة من الشعب، تتمتع بكل شيء، مع حرمان الآخرين من كل شيء، فإن الاختيار بين الرضوخ أو المواجهة يصبح أمراً محسوماً من قِبل الأغلبية المقصاة بوجوب المواجهة. فلا مناص في سوريا من أن تتكتل الأغلبية في «عصبة واحدة» للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين فئات الشعب وأفراده. قد تتأجل المواجهة تحيناً للفرصة، غير أنها الخيار الأوحد نحو إسقاط النظام. فمن البديهي أن يرفض أبناء الشعب الواحد ممارسة أي تمييز لفئة من فئاته تحت أي مبرر؛ لأن الكل مؤمن بأنه على السواء مع الجميع في التنعم بثروات الوطن وخيراته. إن حسابات المواطن، فرداً كان أو فئات، دقيقة جداً حين المقارنة بالآخرين، ولن يرضى بممارسة أي تمييز لغيره حتى في توزيع الوظائف والواجبات، وإنما قد يتأخر القرار بإظهار عدم الرضا وفق دورة النضج الفكري المرتبط بالأحداث.
بنظري أنه عندما يوجد الشعور بمحاباة النظام كما هو في سوريا لفئة ما على حساب الأغلبية فسيؤدي ذلك لنشوء حساسية تجاهها؛ ما يعني بداية النهاية لوحدة المجتمع وتلاحمه. والأخطر هنا أن يتفاقم هذا الشعور مع الوقت نتيجة ممارسات هي في عمومها سطحية، وربما تمارَس بعفوية أو حتى سذاجة، حتى تؤدي إلى شيوع مفاهيم معينة لصالح تلك الفئة، فتعمل هي بدورها على دعم امتيازاتها في قمة هرم الدولة من خلال أواصرها الأفقية وعلاقاتها الرأسية وبشكل فطري وعفوي أحياناً. والأقبح هنا هو التوسع في هذه الممارسات نزولاً من رأس هرم المجتمع نحو القاعدة، حتى ترسّخ بحكم التكرار وكأنها عرف وسجية لذلك المجتمع. هذه الممارسات ستؤدي مع مرور الوقت إلى تمايز فئات الشعب، وستكون سبباً لشرخ علاقة المحكوم بالحاكم، باعتبار الحاكم مسؤولاً عنها ابتداء أو إهمالاً. بدايةً سينشأ شرخ العلاقة بالتجافي ومروراً بقبول الوقيعة ثم انفصام الولاء فالعداء السافر ثم المواجهة المكشوفة.
بإسقاط ما سلف على سوريا سنجدها دولة فئوية بامتياز، لا يشعر فيها عموم أبنائها، من غير تلك الفئة الطفيلية، بصدق الولاء نحو النظام؛ ما أدّى إلى بروز تكتلات «عصبية» جديدة تنادي بسقوط النظام وقيام آخر بديلاً له يمثل تطلعاتها. لقد كان هذا ديدن النظام، ومنذ بداياته، حين مارس سياسة التمييز لفئات معينة «الدروز والعلويين والإسماعيليين» عن عامة الشعب، ضمن حركة تصفية واسعة قام بها في قيادات الجيش ومفاصل الحكم في عهد أمين الحافظ، ثم مورست أكثر في عهد صلاح جديد، حيث حصرت في العلويين فقط وهمِّش الآخرون. حافظ الأسد كان عرابها، ومارسها بتعسف أشد وذكاء أعمق، عندما انقلب على رفاقه، فقام بتصفيات كبرى لتكريس تميّز الفئة العلوية. قام الأسد الأب بعد ذلك بتصفيات أدق لتكريس هيمنة فئة منتقاة من بين العلويين أنفسهم لا تدين لغيره، وأبقى ظاهرياً على بعض الرموز، ومن بينها قيادات سُنّية، بغرض التجميل وحبك اللعبة، وليس لها من الأمر شيء. هذه السياسات أصبحت ممارسات مكرورة ضمن المجتمع كله، فتكرست مع الوقت هيمنة فئة صغيرة تمتعت بما حرم منه بقية فئات الشعب السوري، حتى تلك التي قربها النظام في بداياته.
نتيجة لما سبق نرى الجميع في داخل سوريا، ومثلهم عددياً خارجها، مسلمين ومسيحيين، عرباً وأكراداً، سُنّة وإسماعيليين ودروزا، بل غالبية العلويين المقصين، كلهم في كتلة واحدة، يجمعهم كرههم للأسد وزمرته، وتطلعهم بدونه لمستقبل يتمتعون فيه بالمساواة والعدالة. لقد كان خيار القطيعة والمواجهة مع النظام أمراً محسوماً منذ ثلاثين سنة، ومجازر حماة في 1982 شاهدة بذلك، وما نراه اليوم ليس إلا الفصل الأخير.
إن معركة اليوم تدور بين فئتين، إحداهما الشعب السوري كله في «عصبة» واحدة ضد «عصبة» الأسد، الذين لا يرون لاستمرار حكمه فيهم مبرراً شرعياً أو منطقياً، لإيمانهم بأنه لم يكن في يوم من الأيام لهم أو يمثلهم أو سيحقق تطلعاتهم في أجلى صورها المتمثلة في تحرير الجولان. إن المواجهة هناك قد استؤنفت، وبقوة لا يمكن معها التراجع أو التسوية، بين الشعب السوري كله وفئة الأسد وحدها، ولا بد من نهاية إحدى العصبتَيْن.
وهنا فإني على يقين بأن القارئ الكريم يشاطرني إيماني الراسخ أن النصر والمجد، بحول الله وقوته، سيكون حتماً للشعب السوري العظيم.
- رئيس مركز الدراسات والبحوث وأستاذ القانون الدولي بكلية الملك خالد العسكرية
mzmzbraidan@gmail.com