عند استقبالنا يوم الجمعة الماضي من طرف خادم الحرمين الشريفين في فعاليات مهرجان الجنادرية لهذه السنة، خاطب خادم الحرمين الشريفين ضيوف المهرجان ومن خلالهم ذوي العقول من البشرية قائلاً:
«إن ما حدث في الأمم المتحدة هز ثقة العالم في المنظمة الدولية (وذلك في إشارة إلى استخدام روسيا والصين لحق الفيتو ضد قرار بشأن سوريا)؛ ونحن في أيام مخيفة: ومع الأسف الذي صار في الأمم المتحدة في اعتقادي هذه بادرة ما هي محمودة أبدا، بادرة كنا وكنتم نعتز بالأمم المتحدة، تجمع وما تفرق، تنصف وما يتأمل منها إلا كل خير، وإلى الآن نحن نقول إن شاء الله». وقبيل كلمة خادم الحرمين الشريفين، اعتبر خطيب وإمام المسجد الحرام، أن ما يواجهه الشعب السوري من أشد أنواع الجور والقتل لا يرضاه الله ولا الرسول الكريم، ولا يقره دين ولا ملة ولا عرف، وأنه كلما ازداد المرء قتلا ازداد سفها، وأضاف في خطبة الجمعة: «يتفق الناس جميعا مهما اختلفت مداركهم أن العقل من أعظم نعم الله على العبد، به يميز الخبيث من الطيب والزين من الشين، هو علامة فارقة بين الآدمية والبهيمية والحجر الصلد»، قبل أن يتابع «إنه لا يعلم مقدار العقل إلا من رأى فاقده أو فاقد الاستنارة به ومن وهبه الله لا أثر له في واقع حياته فهو كالحمار يحمل أسفارا»؛ والراجح أنه لا عقل لمن يقتل شعبه آناء الليل وأطراف النهار، وكيف يعقل أنه في المدى المتوسط سيحكم فرد شعبا قتل فيه الوالد والأم والابن والحفيد والصغير والكبير.. فصاحب الكرسي يكون قد فقد حلاوة العز والعصبية، ويبلغ فيه من السلطوية والقتل ما لا يمكن وصفه فتسقط العصبية بالجملة؛ وينسى الحماية والمدافعة والمطالبة من الشعب، والشعب هو الذي يحمي النظام وليس العكس، فطور الظفر بالبغية كما يقول ابن خلدون وغلب المدافع والممانع يكون قد ولى لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها؛ فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاتكاء والاستظهار بدول كروسيا والصين من أهل النجدة حتى يتأذن الله بانقراضه فيذهب كرسي البغي بما حمل؛ وللأسف هناك براهين حديثة العهد كما هو الشأن في ليبيا وتونس ولكن لم يتأمله بشار الأسد، وإن تأمله فلن يعدو وجه الحق إن كان من أهل الإنصاف؛ فالاستبداد الذي تعيشه سوريا لن يطول طويلاً، لأن صاحب الدولة يظن أن له من الموالين في الداخل والخارج ما يكفي لجدع أنوف المعارضين، ويكفي الرجوع إلى سوابق مصر وتونس حيث إن أقرب المقربين عندما تضيق عليهم الأرض بما رحبت وتضيق عليهم أنفسهم، يكونون أول الخارجين عن صاحب الدولة نجاة بأنفسهم وذويهم وصوناً لأعراض الشعب وكرامتهم، والنبيه من استبق الحداث ومكن شعبه من حمايته وخلق سلاح الثقة بينه وبين المحكومين.
الذي وقع في الأمم المتحدة يندى له الجبين وهو وصمة عار في تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة؛ ولكن ما الذي وقع بالضبط حتى يقع التواطؤ الروسي-الصيني لمنع إصدار قرار ضد سوريا في مجلس الأمن رغم المئات من القتلى يوميا في سوريا وجرائم شنعاء في حق الإنسانية البشرية يستعصي وصفها؟ بل وحتى الصين ما مصلحتها في هذا الفيتو ونعلم أن علاقاتها بسوريا محدودة؟ أظن أن الأستاذ المبرز مينشي باي أعطى أجوبة مقنعة في مقالة أخيرة نشرتها له نيويورك تايمز؛ فالسبب الحقيقي من وراء القرار الصيني ليست له أية صلة بالعلاقات الصينية- السورية، ولكن يرتبط بمصالح دبلوماسية خاصة وبالضبط مع روسيا؛ فالفيتو الصيني المستعمل كان لصالح روسيا قبل أن يكون لصالح سوريا في مخيلة المسؤولين الصينيين؛ فمنذ عودتها إلى حظيرة الأمم المتحدة سنة 1971، كانت تتجنب استعمال الفيتو وكانت تنزع إلى الامتناع عن التصويت في كل القرارات التي ترفضها، ولم تكن لتستخدم حق النقض الفيتو إلا ثماني مرات في قضايا حساسة وتعتبر ذات أهمية إستراتيجية للمصالح الوطنية الصينية القصوى.
فالصين استعملت مثلا ثلاث مرات الفيتو في حق دول تعتبر حليفة لها كما وقع سنة 1972 عندما استعملته لمنع انضمام بنغلاديش إلى عضوية الأمم المتحدة نزولا عند طلب باكستان التي قبلت عن مضض استقلال بنغلاديش عنها، ونعلم العلاقات المتينة التي كانت تجمع الصين بباكستان؛ واستعمل الصين الفيتو (مع روسيا) ضد قرار لفرض عقوبات على بورما والتي هي من حلفاء الصين، وفي تموز 2008 استعملت الصين حق النقض للاعتراض على مشروع قرار لفرض عقوبات على نظام موغابي في زيمبابوي، الدولة التي تجمعها مع الصين علاقات إستراتيجية في القارة الإفريقية.
لذا فالفيتو الذي استعملته الصين تجاه سوريا يعتبر شاذا إذا استندنا إلى العلاقات الإستراتيجية التي تجمع البلدين، فهي ضعيفة إن لم نقل منعدمة؛ ولكن بما أن روسيا عارضت القرار بدافع من مصالح عسكرية واقتصادية فإن الصين فضلت مساندة حليفها الروسي وعدم تجنب سياستها الخارجية للخطر عندما تكون بكين بحاجة إلى موسكو في المستقبل... وهناك من يقول إن التعنت الروسي مرده إلى أن موسكو ترى في سوريا حليفا إستراتيجيا في المنطقة وعلى منطقة البحر الأبيض المتوسط من خلال القاعدة البحرية في طرطوس ومن خلال مشتريات السلاح الكثيرة من نظام بشار الأسد، أما الصين فلا طمع لها في البلدة ولا مصالح اقتصادية معها.
ثم إن هذا الزواج العجيب بين الصين وروسيا قد كون محورا حاسما في صنع القرار في مجلس الأمن وأفضى إلى تفاهم إستراتيجي يقوم على تحدي الدول الغربية وعدم الظهور بفيتو شاذ ومنفرد ومنعزل عن الجميع؛ حيث تقوم روسيا بمساندة بكين في القضايا الحساسة للصين (مثل قضية بورما) وتقوم الثانية بمساندة الأولى (مثل سوريا)؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أن المخاطب الروسي أصعب من المخاطب الصيني للحصول على تنازلات داخل مجلس الأمن في قضايا شائكة مثل القضية الإيرانية؛ ولهذا السبب تركز الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في الانتصار على روسيا أكثر من انتصارها على الصين؛ كما أن هناك تفسيرا خفيا يمكن طرحه هو عداء الحزب الشيوعي الصيني للثورات العربية بصفة عامة وللانتقالات الديمقراطية التي تسقط أنظمة سلطوية مستبدة مخافة أن تنتقل إليها العدوى أو تشعل في كيانها ثورة مماثلة من طرف شباب الصين الأكثر إلماما بخفايا الفيسبوك والتويتر؛ لذا نفهم جليا الرقابة المتزايدة على المنشقين والاضطهاد المستمر لهم. معنى كل هذا الكلام الذي قلته هو أن مجلس الأمن بات ضحية مصالح دول وليس مصالح الإنسانية والبشرية؛ وإذا كان من وراء أحداث الأمم المتحدة تثبيت السلم والسلام في العالم بخلق قوانين دولية ومؤسسات دولية وميكانيزمات ذكية، فإن هذا ينتفي بما يقع اليوم في سوريا من قتل وتقتيل وإبادة شعب أبي طال صبره؛ وهنا أستخدم كلمات خادم الحرمين الشريفين في خطابه لنا على هامش مهرجان الجنادرية أن الدول (ويقصد بها مصالح الدول) ليست هي التي يجب أن تحكم النظام الدولي وإنما العدالة والإنصاف؛ ويقيني أنه ما لم تصلح الأمم المتحدة فلن تستقيم أمور النظام الدولي الحالي وللحديث بقية...