هل فكَّر أي واحد منا فيما سخر الله له، بل أقربها إليه وأكثرها فائدة له، وهو اللسان، الذي يعبِّر به عما يريد، ووظيفته، أو بعض وظائفه، وهو أصغر عضو فيه، وما فيه من مهمات كبيرة، وكثيرة، وما يؤديه من عمل؟.. وماذا يحصل له لو تعطل لسانه عن النطق يوماً واحداً، ثم ما إحساسه في ذلك اليوم؟

فقد جرب جزءاً من ذلك شخصٌ مع مجموعة من أصدقائه، وهم في رحلة؛ إذ من ممازحته لصديق له كثير الكلام دبَّر الأمر مع رفقائه، فأتوا بصمغ وهو نائم، وختموا بها فمه، وكان ونومه ثقيلاً، وختموا بالصمغ ما فيه أصابعه، فلما استيقظ كاد يجن مما وجد عليه حالته، ولا يقدر على التعبير، ولا يدري عن سبب ما حصل له، ومرت به حالة شديدة من الهستيريا؛ فأدرك واحد منهم أهمية الإسراع في إنهاء هذا المزاح الثقيل، الذي كاد يذهب بعقل صاحبهم.

بهذا فإن الجواب عن السؤال عن مهمات اللسان، وما فيه من فوائد ومصالح، لعله سيكون ظاهراً بأن اللسان عضلة مهمتها النطق. وتختلف ألسنة البشر في المعمورة بحسب لغاتهم التي لا يحصيها إلا الله سبحانه، فإذا كان يقال عن الهند وحدها بأن فيها أكثر من 400 لغة فكم هي اللغات في العالم؟!

ثم كم عدد اللغات التي اندثرت؟ لأنه جاء في فقه اللغة أن النطق فكر متجدد، ولو عُزل أطفال في سنواتهم الأولى عن الناس، وجاء وقت النطق لاخترعوا لكل ما حولهم اسماً جديداً؛ لأن البشر قد أودع الله فيهم حب التعبير بهذا اللسان الناطق، يقول سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (22 سورة الروم). ولغات العرب من هذا النوع، كما قال ابن قتيبة في فقه اللغة: فقد حفظ الله أفصحها، وهي لغة قريش، بالقرآن الكريم؛ حيث إن أسواق العرب في الجاهلية، كانوا يتدارسون فيها الفصاحة والبلاغة، فحازت لغة قريش الأولوية.

ووسيلة التعبير هو اللسان، هذه البضعة الحمراء اللون، عند كل فرد، أودعه الله فيه وهو في بطن أمه، قبل الولادة. ولما خلق الله آدم أبا البشر علمه الله الأسماء كلها، ولما عرضت على الملائكة عجزوا عنها، وقالوا: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (32 سورة البقرة). والأنبياء أرسلهم الله كل واحد بلسان قومه، أي لغتهم التي ينطقون بها.

وقد اهتم رجال بفقه اللغة؛ ليأخذوا أصل التسمية، يقول الأصمعي ضمن رحلاته في البادية، في البحث عن أصل التسمية؛ لأنه رأى هو ومن على شاكلته أن الأسماء تختلف، والباحث يلمس هذا في قولهم: واسمه كذا باللغة (ويسمي القبيلة). يقول الأصمعي إنه جاء ضيفاً عند قبيلة في جزيرة العرب، فأضافوه، وقدموا له مرقاً فقال: ما اسم هذا عندكم؟ قالوا: الحميم، فقال: هذا اسمه وهو حار، فما اسمه إذا برد؟ فقال الأعرابي لا نتركه يبرد حتى نجعل له اسماً.

لذا فإن الغريزة عند الطفل، الذي وهبه الله لساناً، يعبر به عن نفسه، تجعله يخترع دلالات بلسانه قبل أن يعرف المعنى الذي يريد، فيقول عن كل شيء غير حسن (كخه) والقبيح (يعه)، وهكذا، يخترع كلمات تعبر عن مفهومه. وقالوا عن سكان الغابات إنهم يتفاهمون مع حيواناتها والوحوش بنغمات قريبة من نطقها.. فسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.

وقد علم الله سليمان عليه السلام منطق الطير؛ فقد روي أنه خرج لصلاة الاستسقاء، وخرج معه كل شيء، فرأى في طريقه نملة رافعة يديها، فقال للجمع الذي خرج: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم، يعني هذه النملة التي أجاب الله دعاءها، فأُمطروا، ونقل لهم دعاءها، ذلك أن الله سبحانه قد جعل اللسان وسيلة لكل كائن ليعبِّر به، ويدعو الله به، كما أخبرنا سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (النور 41).

فهذا اللسان هو أقوى عضلة إرادية في الجسم، وله في الإنسان وظائف كثيرة، كالتذوق، وتقليب الطعام أثناء مضغه في الفم، والمساعدة في البلع، حيث يُعطي البلعوم إشارة عاجلة بالانفتاح. وأبرز وظائفه الكلام. ألم تر أنه يعمل لنا أعمالاً كثيرة، لا نُدرك كنهها؛ فالطبيب مثلا في معالجته الطفل يطلب منه أن يفتح فمه ليكشف على اللسان، ومنه يعرف المرض، ويضع حبوباً أو شراباً على اللسان، فيدفعه اللسان في جوف المريض، سواء كان طفلاً لا يدرس أو كبيراً يحس، وهذا جزء بسيط من مهمات اللسان الكثيرة؛ حيث يختبر ما يدخل الفم، بما أودع الله في هذا اللسان من حاسة التذوق، بما يُسمى قنوات التذوق، فيسمح للنافع بالمرور، ويمنع الضار، ويرسل ما يمكن معالجته للأسنان، ويمنع غير ذلك؛ فهو حارس أمين بما قدره الله له.

وهذا اللسان لو تعرَّض لقطع أو جرح أو عضته الأسنان عفوياً فإنه لأهميته من أسرع عضلات الجسم التحاماً. وأذكر بالمناسبة عندما كنا أطفالاً، ولم يتوافر العلاج الحديث، سقط زميل لنا على وجهه، فعض لسانه وانقطع جزء منه متعلقاً، فعولج بوصفة شعبية، التحم بها - بتوفيق الله - سريعاً، فتأثر نطقه أياماً قليلة، وبرئ، وفي المدرسة الابتدائية صار عليم اللسان بعد هذا الحادث.

واللسان يتركب من مجموعة من العضلات: خارجية: تربط بينه وبين أجزاء الفم الأخرى. وداخلية: وهي مختلفة الأشكال فتعطي اللسان القوة والمرونة.

يقول ابن قيم الجوزية - رحمه الله - في كتابه التبيان في أقسام القرآن: وأما الفم فمن العجائب، وباب الطعام والشراب والنفس والكلام، ومسكن اللسان المناطق، الذي هو آلة العلوم وترجمان القلب، ورسوله المؤدي عنه. ولما كان القلب ملك البدن، ومعدناً للحرارة الغريزية، فإذا دخل الهواء البارد، وصل إليه فاعتدلت حرارته، وبقي هناك ساعة، فسخن واحترق، فاحتاج القلب إلى دفعه وإخراجه، فجعل أحكم الحاكمين إخراجه سبباً لحدوث الصوت، في الحنجرة والحنك واللسان والشفتين والأسنان مقاطع مختلفة، وبسبب اختلافها تميزت الحروف بعضها عن بعض، ثم ألهم سبحانه العبد تركيب تلك الحروف؛ ليؤدي بها عن القلب ما يأمر به.

فتأمل الحكمة الباهرة حيث لم يضع سبحانه ذلك النَّفَسَ المستغنى عنه، المحتاج إلى دفعه وإخراجه، بل جعل فيه إذا استغنى عنه منفعة ومصلحة، هي من أكمل المصالح والمنافع، فإن المقصود الأصلي في النَّفَس هو اتصال الريح البارد إلى القلب، فأما إخراج النفس فهو جار مجرى دفع الفضلة الفاسدة، فصرف ذلك سبحانه إلى رعاية مصلحة ومنفعة أخرى، وجعله سبباً للأصوات والحروف والكلام، ثم إنه سبحانه جعل الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق، والسعة والخشونة والملاسة؛ لتختلف الأصوات باختلافها، فلا يتشابه صوتان كما لا تتشابه صورتان، وهذا من أظهر الأدلة.

فإن هذا الاختلاف، الذي بين الصور والأصوات، على كثرتها وتعددها، قلما يشتبه به صوتان أو صورتان، ليس في الطبيعة ما يقتضيه، وإنما هو صنع الله الذي أتقن كل شيء وأحسن كل شيء خلقه، فتبارك الله رب العالمين، وأحسن الخالقين؛ إذ ميز سبحانه بين الأشخاص بما يدركه السمع والبصر لدى كل منهم.

ومن هذه العبارة عنده نرى أن الله وهب بعض المكفوفين حاسة قوية في معرفة الناس بأصواتهم مهما طالت المدة، أكثر من حاسة النظر؛ لأن الأشخاص تتغير معالم صورهم، مع طول الزمن، وبما يطرأ على الملامح، ما عدا الصوت، وأذكر نموذجاً لذلك بمن فقد بصره صغيراً، وعوضه الله البصيرة، بالشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -، الذي لازمته كثيراً، فقد كان يأتي إليه رجال طالت غيبتهم عشرات السنين، فيعرفهم بنطقهم، ويسألهم عن الجيران والعائلة والأقارب فرداً فرداً، ويرد إذا ذكر من مات بالترحم عليه، ولما سألته مرة عن رجل تحدّث معه قال: إنه في مثل سنه، وإن أسرته جيران لنا يوم كنت أدرس على المشايخ في حلقات مسجد دخنة في أوائل الخمسينيات من القرن السابق، ولما حسبته إذا هو قرابة ستين سنة، ما رآه ولا سمع صوته، ومع ذلك عرفه منذ تكلم، وهذا مصداق لما ذكره ابن قيم الجوزية آنفاً - رحمه الله -: بأنه قلما يشتبه صوتان.

ثم قال ابن القيم: وأودع سبحانه اللسان من المنافع: منفعة الكلام - وهي أعظمها - ومنفعة الذوق والإدراك، وجعله دليلاً على مزاج القلب وانحرافه، كما جعله الله دليلاً على استقامته واعوجاجه، فترى الطبيب يستدل بما يبدو للبصر على اللسان من الخشونة والملاسة، والبياض والحمرة والتشقق وغيرها، على حال القلب والمزاج، وهو دليل قوي على أحوال المعدة والأمعاء، كما يستدل السامع بما يبدو عليه من الكلام على ما في القلب، فيبدو عليه صحة القلب وفساده معنى وصورة.

وجعل سبحانه اللسان عضواً لحمياً، لا عظم فيه ولا عقب، لتسهيل حركته؛ ولهذا لا تجد في الأعضاء من لا يكترث بكثرة الحركة سواه، فإن أي عضو من الأعضاء إذا حركته كما تحرك اللسان لم يطق ذلك، ولم يلبث أن يكلَّ ويخلد إلى السكون إلا اللسان.

وأيضاً فإنه من أعدل الأعضاء وألطفها، وهو في الأعضاء بمنزلة رسول الملك ونائبه، فمزاجه من أعدل الأمزجة في البدن، ويحتاج إلى قبض وبسط، وحركة في أقاصي الفم وجوانبه، فلو كان فيه عظام أو عصب لم يتهيأ منه الكلام التام، ولا الذوق التام، فكوَّنه الله سبحانه كما اقتضاه السبب: الفاعلي والفائي. والله أعلم. [309 -311].

للبحث صلة