كل مجتمع داخل الدولة الواحدة، له عاداته وتقاليده، وكل منطقة فيه لها أيضاً عاداتها وتقاليدها المختلفة عن المنطقة الأخرى، الاحتفال لدينا في المملكة في مناسبات الأفراح خاصة اختلفت أشكاله وألوانه في هذا العصر عن ذي قبل، وإن احتفظت بعض المناطق بعاداتها السابقة، لكن البعض شهد انقلاباً لا إراديا واضحاً نحو السلبية، فبعد أن كان هذا البعض لديه من العادات الاحتفالية الجميلة المنضبطة، تحيي الليل كله بالفرح والأنس عبر ضرب الدفوف للنساء والعرضات النجدية للرجال، التي تضفي على المناسبات شيئاً من ألوان المتعة والسرور بين أهالي العروسين ومن يشاركهم أفراحهم من جماعتهم وأهالي المدينة، مع خلو المناسبات من المحاذير الشرعية، كنا قديماً في «الزلفي» نتباشر عند سماعنا بقرب مناسبة زواج، لا من أجل الأكل فهذا أمر مفروغ منه بل نتسابق له! لكن لما يصاحب هذه المناسبة من أهازيج الفرح التي تضطلع بها فرق معتمدة تلقائياً تبرع بها أهلها ممن وهبهم الله هذا الفن البريء الذي يمشي في عروقهم، كفرقة (السكارين) وهم أفراد من عائلة السكران القديرة والمشهورة بالزلفي الملهمة بالشعر أباً عن جد، يفرحون لجماعتهم ويبثون الفرح في نفوس أهالي العروسين وجماعته دون مقابل مادي، لا كما هو الحال عند البعض في وقتنا الحاضر، الذين يفرضون أموالاً طائلة، ليس بمقدور كل عريس التكفل بها، ما علينا، أفراح مناسبات الزواج في نجد خاصة، وخاصة الخاصة في مدينتنا «الزلفي» المحبوبة، وما جاورها إلى أن تصل إلى الرياض، في الثلاثة عقود الأخيرة لك عليها، وهي مغتالة بالتمام وبالكمال، أعتقد أن الكل ممن هو في عمري، يشعر بهذا التغير غير المرحب به، أفراحنا الحالية لا تعبر بأي حال من الأحوال عن مفهوم الفرح الحقيقي، بقدر ما تعبر عن لون من ألوان الترح، كأن المناسبة، عزاء أو على الأقل عزيمة عشاء، بل الأدهى والأمر، عندما تشاهد الجمع الغفير داخل القاعة، كل مدعو اتخذ مكاناً قصياً، يقلب عينيه ويبحلقها على الآخر، مبرطم لا تكاد تنظر لسن من أسنانه، وكأن فمه ملصق بغراء باتكس، كأنه يريد أن يجهز عليك بنظراته الغريبة والمخيفة، يشبه الكرة المنفوخة، يتحرى أدنى حركة لينفجر كالقنبلة، تقول في نفسك ماذا عملت تجاه هذا الرجل، هل أخطأت في حقه؟ وتنقضي سويعات هذه الليلة بهذه الهواجيس والكوابيس والتثاؤب، وكأنها ألف ليلة وليلة! لسان حال المدعوين الحيارى يقول: متى يقال هلموا للعشا؟ فبعده مباشرة، كأن الجمع جمهور كرة قدم، دلفوا زرافات بعد نهاية مباراة، تلتفت يمنة ويسرة، فإذا بالقاعة خالية على عروشها، هل تصدقون أني وجدت أحد المدعوين ذات مرة في سبات عميق داخل القاعة ! آه ثم آه على ليالي زمان، زمان «المراد» و»العرضة النجدية» حتى آخر الليل على نور السرج والأتاريك صاحبات الفتائل البديعة! يا جماعة الربع لا تلوموني ولوموا أنفسكم، إن قلت لكم بأني أفرح بوجودي في «جدة» في فصل الصيف لظروف عملي المعتادة، وأتمنى أن أدعى لكل مناسبة زواج هناك في مكة أو جدة، هناك الفرح الحقيقي، يبدأ من بعد صلاة العصر إلى آخر الليل، هناك الجسيس يطربك بصوته الشجي البريء، هناك السمسمية وهناك الرقصات الجميلة على وقع الطبول المتعاقبة على النار، هناك « لعبة المزمار» التي تشعل المناسبة حيوية وبشاشة وأنساً، وثمة لون آخر وصورة جميلة يطبعها أهلنا وأحبابنا في الجنوب الغالي في ربوع أبها والخميس ونجران وجيزان وجيرانهم على وقع الرقصات والقفزات الهوائية المميزة المتوشحة بالخناجر، هي التي تجسد الفرح الحقيقي التي تشبع الناظرين، يا ترى من باع أيام أفراحنا في الزلفي والرياض ونجد واغتالها بهذه الصورة القاتمة ؟ أظن - كعادتي - وليس بعض الظن إثم، أن عاداتنا القديمة في أفراحنا بالزلفي ونجد عموماً، اندثرت وانقرضت، دون سابق إنذار، وحتى لا نتهم أحداً كائناً من كان، يبدو أن قلة الحماس وتغليب النفع المادي على المصالح المجتمعية وبعض النظرات غير المقبولة، كانت من الأسباب الرئيسة التي اغتالت ألوان أفراحنا القديمة والممتعة، بدليل استمراريتها في مناطق المملكة الأخرى التي أشرت لها، البون شاسع وواسع بين أفراحنا والمناطق الأخرى، أفراحنا أتراح، وأفراحهم أفراح، وأصحاب هذه الأفراح الحقيقيون، يسخرون من أفراحنا ولا يعدونها هكذا، بقدر ما يعتبرونها، مناسبات حزن وعزاء وأتراح، وفي نظري هم محقون في ذلك بدليل ثبوت التهمة على أرض الواقع دون مكابرة، ودعوني أتحرش بكم، أليس النساء يفرحن بشكل جميل على وقع الدفوف وحق لهن ذلك؟ فلماذا يحرم النصف الآخر من الفرح؟ وهو عادة من يتحمل تكاليف وتبعات المناسبة برمتها؟! أليس للذكر مثل حظ الأنثيين؟! فيا ترى من يعلق الجرس ويعلنها عودة للماضي بفنه الجميل؟... ودمتم سالمين.
dr-al-jwair@hotmail.com