في رحاب مدينة الحبيب رسول الله عقدت جامعة طيبة مؤتمرها العالمي حول التعليم المستمر وعلاقته بتشكيل مجتمع المعرفة.
و فكرة التعليم المستمر رغم أنها قد تبدو أكاديمية للوهلة الأولي لكنها حقيقة واقعة يمارسها كل منا في هذا العصر في كل لحظة ودقيقة. فالثورة التكنولوجية مكنتنا من التواصل مع العالم وقراءة آخر مستجداته؛ فعبر تلفونك الجوال وفي
أي مكان تكون فيه يمكنك أن تقرأ آخر المقالات وتتابع آخر الأحداث دون أن يقف رقيب حكومي فوق رأسك ليحدد ما تقرأ أو نوعه، وهو ما يعني ببساطة أننا جميعا انتقلنا الى رحاب فكرة التعليم المستمر حتى بدون الالتحاق بالمؤسسات الرسمية، رغم أهمية البرامج التي يمكن أن تطرحها وخاصة لمن هم على رأس العمل في كافة التخصصات المهنية. هذا ما يؤكد في ظني أهمية موضوع المؤتمر الذي حملت جامعة طيبة لواءه بقيادة مديرها النشط منصور النزهة تحت مظلة كلية التربية، وبرعاية كريمة من صاحب السمو الملكي أمير المدينة عبدالعزيز بن ماجد لتجمع أكثر من 75 خبيرا من 35 دولة عربية وأجنبية دعتهم للمشاركة بقيادة دينمو الجامعة بلا شك د محروس غبان وعميد كلية التربية د منصور غوني، وفريق عمله من النساء والرجال في كلية التربية الذين قدموا عملا خارقا بكل المقاييس في فترة زمنية قياسية.
التعليم المستمر أساسي لتشكيل مجتمع المعرفة الذي يفترض فيه ليس فقط القدرة على متابعة المعرفة بل إنتاجها بأشكال مختلفة تخدم احتياجاته وتقدم إضافة إلى التراث الإنساني عامة. والقدرة على جلب المعرفة وإعادة استخدامها واضحة تماما في واقعنا عبر الشباب العربي الذي استطاع عبر المعارف المتاحة له في عصرنا من أن يعيد صياغة الكثير من المفاهيم الاجتماعية والسياسية والثقافية ويفرضها على الواقع بطرق أذهلت المؤسسات التقليدية من مدرسة وحكومة وحاكم.
وقد عملت الكثير من المتغيرات الخاصة بعصرنا الحديث على تأكيد حقنا في تعلم لا يتوقف عند عمر او مرحلة.
ولعل أطرف وأجمل ما قرأت حول ذلك هو للعالم والمربي الشهير ديفيد بيركنز من جامعة هارفرد وأحد المتخصصين في دراسات التفكير وعلاقته بالتعلم، والذي أكد على أن هناك عدداً من المتغيرات الديموغرافية والثقافية التي أثرت في طبيعة استخدامنا لوظائف التفكير؛ مما أتاح فرصا إضافية لتعلم لا ينقطع مدي الحياة.
التحسن في الخدمات الصحية والغذائية المقدمة في معظم مجتمعات العالم على سبيل المثال أدت الى زيادة واضحة في الأعمار المتوقعة للبشر، وصل في بعض الدول الى خمسين عاما في المتوسط مما يعني أن الزمن المتاح للإنسان ليتعلم أصبح أكثر بكثير مما كان عليه، قبل مائة عام هذا إضافة الى زيادة قدرة كل منا على التحرك وسط محيط عالمه، أو حتى خارجه للبحث عن فرص تعليمية ووظيفية أكبر؛ فمن قبل كان الإنسان مرتبطاَ بالقبيلة والعائلة أو الوطن المحدد. اليوم تحدد المعرفة المتوفرة لديك في وطنك الحقيقي حيث تجد عملا مشبعا ومزجيا ماديا ومعنويا وهكذا تجد إنسان اليوم في حركة دائمة جسمية واجتماعية بحثا عن فرصة أفضل وظيفيا أو تعليميا فكل منا يتوقع ويعمل ويخطط لشئ جديد أو وظيفة أو بعثة أو نقل لمدينة أخرى، وكل ذلك زاد من فرص الناس ورغبتهم في التعلم لتحسين مستوياتهم الحياتية بما يفرض عليهم ضرورة تعلم مستمر وممارسة دائمة لمهارات تفكير تبقيها حية وفية لفترة أطور مما عرفه الإنسان خلال تاريخه.
وما ساعد على سهولة حركتنا في المجتمعات الحاضرة هو الحجم الهائل والدقيق للمعلومات ورخص الحصول عليها مقارنة بما كانت عليه وربما تتذكرون كيف كنا قديما نصور رسائل الماجستير والدكتوراة وندفع للحصول عليها من قبل شركات متخصصة مقابل ما يحدث اليوم لطلاب الدراسات العليا من سهولة ورخص المعرفة المتاحة لهم عبر قواعد المعلومات الالكترونية التابعة لكافة المؤسسات الأكاديمية في العالم.
سهولة وكثرة وتعقد المعلومات في زمننا حسّن الخدمات وسهّل قدرتنا على اتخاذ قرارات مناسبة و( مفكر ) فيها على حد تعبير بيركنز؛ فمثلا يتيح لنا عالم التكنولوجيا الآن ليس فقط حجز اوتيل عبر النت بل اخذ جولة مكانية ومعرفة الأبعاد الحقيقة بالمتر للغرفة ونوع تجهيزاتها مما يجعل قراراتنا أكثر تبصرا وقس على ذلك ما يجري في حقول المعرفة المختلفة من اختيار لوظيفة او دورة او تخصص.. إلخ من المجالات المعرفية التي يتيحها لنا عالم اليوم. طبعا ليس بالضرورة أن تكون كثرة الخيارات هي المعيار الوحيد لجودة عالمنا اليوم، بل كما يؤكد يركنز في دراساته وخاصة في كتابه الجميل: «جعل التفكير كليا: المبادئ السبع لتغيير النظام التعليمي « أن التحدي الأكبر الذي يواجه الإنسان في مجتمع المعرفة الحالي هي في تعلم كيف يتعلم وكيف يختار ويفكر بعمق من خلال تحديد ما لا يعرفه !
ولتوضيح ذلك يسوق بيركنز مثالا قدمه عالم الطب الشهير في جامعة اريزونا في الثمانينات مارليز ويتي والذي وضع خارطة لما يمكن ان نسميه : ما نجهل : بمعني أننا لا نتعلم شيئا حتى نعرف بالضبط ما نجهله بشأنه.
وقد سماها ويتي :(خارطة الجهل ) ( Ignorance map) والتي صممت لتساعدنا على التعرف وتحديد ليس ما نعرفه بل ما لا نعرفه كي يتاح لنا ان نعرفه )!!!!! وهو ما يدفعنا للتفكير في الاحتمالات الكثيرة التي قد يطرحها تحدي محاولة معرفة مالا نعرف والطرق التي يجب تعلمها حتى نعرف.(؟؟؟)!
أذن عالم اليوم هو عبارة عن قطار سريع من المعرفة الذي يتطلب منا الركض في محطاته المختلفة لتحصيل هذه المعرفة التي لا تتوقف عند حد ومقاومة مناطق الجهل التي لا يحتملها عصر المعلومة الحالي ويوازي ذلك تغير مستمر لاحظه الباحثون للتوقعات المهنية لوظائف هذا العصر فلا أحد يعرف مثلا ما نوع الوظائف التي ستظهر خلال العشر سنوات القادمة ولا نوع المهارات التي ستتطلبها !. وقد أظهرت الكثير من الدراسات أننا حتى لو درسنا تخصصا معينا على سبيل المثال طب , هندسة ‹ تعليم... فمن غير المتوقع أن نستمر في وظيفة مرتبطة بهذا التخصص لأكثر من عشر سنوات على الأكثر أي ان جيل اليوم ليس محظوظا بقدرنا حين نبقي في وظائفنا الحكومية حتى نموت !! مما يفرض عليه ضرورة إعادة التهيئة والتعلم حسب ما يفرضه سوق العمل المتاح وهو ما سيجعلهم في حالة من البحث والتعلم لا تتوقف.. وهكذا كانت جامعة طيبة الطيبة أكثر الأذكياء قدرة على اللحاق بعصرها من خلال توصيتها بعقد مؤتمر يناقش قضايا التعليم المستمر كل عامين، وهذا ما أظن أننا نحتاجه.