عودة أخرى إلى قانون الرهن العقاري المنتظر، الذي نسأل الله أن لا يفك أسره حتى يتم تصحيحه وتجهيز البنية السوقية المالية اللازمة له.
قانون الرهن العقاري ينص صراحة في نظام الرهن العقاري مدعوماً بنظام التنفيذ على تمكين البنوك والمؤسسات التمويلية من ملاحقة المواطن في أمواله كلها وخنقه إذا عجز المواطن عن التسديد أو لم يرغب في ذلك. وهذان النظامان قد سدا الباب أمام أي جهة تنفيذية - كمؤسسة النقد مثلاً - تريد تفسير اللوائح بغير ذلك من أجل المحافظة على توازن السوق، وتوجيه التمويلات إلى المشاريع الاستثمارية الأمثل، ومنع خلق فقاعة عقارية وصدمة للسوق المالية.
وهذا رابع مقال أكتبه في هذا، ففي المقال الأول بعنوان «رهن عقاري أم رهن للمواطن» بينت فيه أن أنظمة الرهن مجرد قطع ولصق لأنظمة قديمة عندنا. واكتشفت مصادفة أنهم قاموا فدلسوا على المسؤول محتجين أن هناك خلطاً مع نظام التنفيذ. فعدت بمقال «إيداع 63 ألف مواطن السجن.. ضحالة قانونية أم استغلال شرعي؟» وبينت أنه لا يوجد نص يخصص إخراج الرهن العقاري من عموم نظام التنفيذ. ثم اكتشفت مصادفة مرة أخرى أنهم دلسوا على المسؤول محتجين بأن مؤسسة النقد هي من يفسر نظام الرهن ويخرج الرهون العقارية من عموم نظام التنفيذ؛ فعدت بمقال «رهنوا المواطن ثم حملوها مؤسسة النقد»، وأتيت بمادة في نظام الرهن العقاري صريحة تُقيد مؤسسة النقد وتمنعها من أي تفسير لا يُطلق يد البنوك والمؤسسات التمويلية في ممتلكات المواطن. (ولا أدري! هل هناك نية مقصودة ضد مؤسسة النقد من أجل توريطها ثم اتهامها أنها ضد المواطن).
ثم اكتشفت بالمصادفة مرة أخرى أن واضعي القانون عادوا ودلسوا مرة أخرى على المسؤول محتجين هذه المرة بتقليد الأمريكان. فقالوا هذا القانون عند الأمريكان وإن كان في عالم التطبيق عندهم غير مُمارس؛ لذا فينبغي ترك قانون الرهن كما هو تأسياً واقتداء بسلفنا الأمريكان في هذا. (ولهذا أقول دائماً إن المقلد هو مجرد مقلد، لا يحسن حتى التكييف والتعديل، وقد قلت من أول مقال إن قوانين الرهن كلها قطع ولصق بلا تمييز ولا تعديل).
وأقول إن هذا التدليس الأخير يكشفه أربعة أمور رئيسة:
1. أنني أكاد أجزم بأن القوانين الأمريكية لا تترك المجال مفتوحاً هكذا للبنك بأن يتسلط على أموال المواطن المرتهن منزله في تمويل عقاري دون أن ينص على الشيء المرتهن في العقد؛ فلعل هناك مادة مخصصة تلزم البنك بالنص على ما يريد ارتهانه في عقد التمويل، وقد دلستم كعادتكم في هذا. فأنا أعرف أن بيوت الإجازات مثلاً هناك قد يُرتهن معها أمور أخرى معها، لسهولة تخلي المواطن عن رفاهية بيت على الشاطئ ونحوه. ولكن أن تصاغ القوانين بشكل صريح كما في نظام الرهن عندنا المدعوم بنظام التنفيذ بأن للبنك الحق في العودة على جميع أموال المواطن والاستيلاء عليها، وحتى إن لم ينص العقد على ذلك، فهذا لا أتوقعه أبداً في القوانين الأمريكية التي تعتبر البنك مشاركاً في مخاطرة التمويل.
2. أن في أمريكا ما يقارب ستة عشر ألف بنك، غالبها يتنافس على التمويلات العقارية، إضافة إلى الآلاف الأخرى من مؤسسات التمويل. وفي ظل هذه المنافسة تنجبر البنوك على التقليل من الشروط وتحمل مخاطرة أكبر؛ ما يدفع البنوك إلى أن تتجنب ارتهان أي شيء آخر. أما نحن فالعرض أقل من الطلب؛ فأحد عشر بنكاً وحفنة من المؤسسات التمويلية لا تشعر بتنافس شديد يدفعها إلى مشاركتها المواطن في مخاطرة التمويل؛ ما سيخلق فقاعة في سوق العقار تنفجر على رأس المواطن بسبب نظام الرهن الجديد.
3. المحاكمات في أمريكا مكلفة، وتمويلات الرهون العقارية قيمها متواضعة لا تساوي كلفة المحاكمات؛ فأموال المواطنين هناك محترمة لا يُتعدى عليها بقانون عام مثل عندنا (كل أموال المدين ضامنة لديون)؛ ما يجعل البنوك هناك لا تتعدى في تحصيل حقها عن المنزل المرهون.
4. هم قد أقروا بأن المُمارس في أمريكا على خلاف القانون؛ فالأمريكان يطبقون {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَة إِلَى مَيْسَرَة وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}، ولكن ما سيمارس عندنا هو القانون المقترح، وسنطبق خذوه فغلوه ثم أمواله فانتهبوه ثم السجن فأودعوه. والعجيب أنني في كل مرة أكتب في هذا أكتشف بعدها مصادفة أن واضعي القانون - ولا أدري من هم- قد دلسوا على المسؤولين - ولا أدري من هم- فغطوا على المسألة دون محاولة تصحيح أو تغيير. والأعجب من العجيب هو: ألم يتفكر المسؤول عن هذا في أنه قد دُلس عليه مرتَيْن قبل هذا فيصبح أكثر حيطة وبحثاً في الثالثة؟! فلم لا يرد إما بخطاب أو على صفحات الجريدة؟ ولكن المسكوت عنه هو أن السكوت عن المسكوت عنه حجة من لا حجة له.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem