المسافاتُ الطِّوال في طريق التقدم العلمي الدنيوي التي سبقنا بها العالم الصناعي المتطور في الغرب أو الشرق تحتاج إلى «التأمل» الذي يساعد على معرفة أسباب ذلك التطور ومراحله، وما نتج عنه من «إيجابيات وسلبيات» حتى نستطيع أن نحدد الوسائل المناسبة التي تعيننا على الإفادة من ذلك التقدم العلمي المدني، ونحن في مواقعنا الثابتة ديناً وقيماً وخُلقاً، فهذا هو أسلوب المجتمعات القوية الواثقة بما هي عليه من الحق والخير، الثابتة على دينها وقيمها وأخلاقها.
أما الانبهار بما وصل إليه غيرنا من جوانب التقدم في مجالات الحياة المختلفة فإنه يُربك الإنسان، ويهزُّ شخصيته، ويُربك -تبعاً لذلك- المجتمع كله والأمة كلها.
المنبهر بغيره يشعر بالنقص، والشعور بالنقص هو أول دركات الهبوط، وأول خطوات التبعية المقيتة، والتقليد الأعمى، وهو بداية الانسياق وراء بريق الآخر انسياقاً كاملاً، وهذا هو المعول الخطير الذي يهدم شخصيات الأمم، ويضعفها -من حيث يظن المنبهرون أنه يقوِّيها- وهو معول كبير يهدم بناء الشخصية ويحطمها، ويخرجها ضعيفة أمام الآخر مترنحة عاجزة عن التأمل الواعي، والاختيار الأمثل.
إن الأمة ذات التاريخ العريق، وصاحبة القيم التي تجعلها قادرة على الوقوف أمام كل إعصار يثير عواصف التغيير، هي الأمة التي تستطيع أن تتأمل ما يجري حولها من التقدم المادي المدني، والتطور العلمي الدنيوي، تأملاً يجعلها قادرة على التمييز والاختيار.
لقد نادى كثير من العلماء والمفكرين المسلمين في مصر في أواخر العهد الملكي إلى وجوب تقوية الذات المسلمة أمام هجمات الغرب العسكرية والثقافية، منبهين إلى الخطر المحدق بالمجتمع المصري إن هو تضعضع وانكسر أمام الاحتلال البريطاني في تلك المرحلة لا من حيث الجانب العسكري، ولكن من حيث الجانب الديني الفكري الثقافي، وحينما جاءت الثورة المصرية، بعد رحيل الاحتلال، فوجئ المجتمع المصري باتجاه أقطاب الثورة وقوَّادها إلى الغرب ثقافة وفكراً وإدارةً وسياسةً بصورة رسَّخت معنى الانبهار والانكسار وعدم الثقة بالنفس، وحاول العلماء والمصلحون أن ينبهوا إلى خطورة هذا المسلك على المدى القريب والمتوسط والبعيد، ولكن الثورة -آنذاك- انطلقت في طريق التبعية والانبهار، وترسيخ ثقافة الآخر، حتى أصبحت مصر -بعظمتها وعراقة تراثها وتاريخها- تبعاً للشرق والغرب، تبعية زادت من تحطيم همَّة الشعب المصري وهو من الشعوب القوية القادرة على التماسك والعطاء، وها هي ذي الثورة المصرية الأخيرة، تؤكد لنا مدى الجناية التي ارتكبها قوَّاد مرحلة الانبهار والتبعية، حتى جعلت المجتمع المصري يعيد ترتيب أوراقه الآن من جديد، على مبدأ التأمل الواعي والاختيار، وهو عمل كبير يحتاج إلى جهود كبيرة.
ومعنى ذلك أن مصر قد خسرت قرناً من الزمان كان بإمكانها فيه أن تكون دولة كبرى، فهي مؤهلة لذلك.
إن من شأن المجتمعات القوية أن تتأمل وتتدبر قبل أن تسلك الطريق الذي سار فيه الآخرون، وأن تُبعد عنها وعن أجيالها الناشئة طبيعة الانبهار الذي يجعل المنبهر مهزوماً ضعيفاً مهما بدى له أنه قوي، فالقوة الحقيقية هي الثبات على المنهج السليم، وعدم التفريط في القيم التي يغرسها شرع الله الحكيم في نفوس عباده المسلمين المؤمنين.
إشارة
بالتأمل الواعي، تصلـح الرَّعيَّةُ والراعي.