في خطبة الجمعة الماضية، روى الخطيب في جامع القاضي أنه كان في زيارة إلى الأردن التي قابل فيها العديد من السوريين الهاربين من جحيم كتائب الأسد، وقد سمع منهم ما يشيب له الرأس، وروى للمصلين عدداً من حكايات ومآسي السوريين، لكن إحدى هذه الحكايات بقيت عالقة في ذهني، بل حتى اليوم وأنا أتخيل هذا الرجل الستيني وسيل بكاء يلتهم قلبي الضعيف، يقول بأن أحدهم استضافه في منزله، وحين حاول أن يسكب له الشاي كان الإبريق يضطرب في يده، ويميل من كل الجهات، فاستوقفه وسأله، فأخبره قصته المفجعة.
اعتقلوه مع أولاده الأربعة، وأوقف العسكر أولاده أمامه، وقالوا له بأنه أمام خيارين، إما أن يختار أحد أولاده كي يقتلوه، ويفرجوا عن البقية، أو أن يقتلوا أولاده الأربعة أمامه؟ ففكّر وفكّر وتوسّل إليهم مئات المرات، لكنهم كانوا يزدادون قسوة وهمجية، حتى وجد أن من الحكمة أن ينقذ ثلاثة من أولاده، ويضحي بالرابع، فأشار بإصبعه تجاه أحدهم، فأردوه قتيلاً أمامه، ثم قتلوا البقية بعده، وكأنما أرادوا أن يجعلوه يسير معذباً طوال حياته، هكذا كان الرجل لا ينام أبداً، يهذي كالمجنون وهو يرى عينيّ فلذة كبده قبل أن يخترق الرصاص جسده، عيناه تقولان لا يا أبي لا تدعهم يقتلونني، كان يشعر بالعذاب الأبدي، يسمع صوته يلومه، يراه يخطف أمامه بعينين متسائلتين: لماذا يا أبي؟
هل رأيت - عزيزي القارئ- مثل هذا الفحش في الجريمة، هل قرأت في كتاب، أو سمعت من سارد ما هو أقسى من هذا النوع من القتل؟
أنا شخصياً، قرأت في (موسوعة العذاب) لعبود الشالجي منذ سنوات بعيدة، كل أنواع القتل والتعذيب على مرّ التاريخ، كل الوسائل المستخدمة في تعذيب الضحية، في سبعة أجزاء، لكن مثل هذا التبجح في القتل والتعذيب، والاستهانة بحياة الإنسان، كهذا الفعل، لم أقرأ بعد!
ففي العصر العباسي، تفننوا في التعذيب بالنار، وقطع الأطراف، وتمزيق أعضاء البدن، والقتل رجماً بالحجارة، وقصف الظهر، وتحطيم الرأس، أو بطرح المعذب للسباع، أو الدفن حياً، أو التعرض للعورة، بإخصاء، أو جبّ، أو خوزقة، أو عصر... ألوان من العذاب الذي عاقب الله سبحانه فاعليه بالاضمحلال وانقراض السلالة.
لكن عقاب هؤلاء لهذا الشيخ المسن أكبر من كل ذلك، أن تجعله قتيلاً يمشي على قدمين، أن تقتله لا بقصف الظهر، بل بقصف الروح، التي تقضي على البدن، هكذا أطلقوه كما لو كان حراً، لكنه حبيس العذاب، لا ينام وهو يرى عيني ابنه القتيل، الذي اختاره من بين إخوته ليقتل، لا ينام ووشوشة ابنه تقلق أذنيه كل ليل، لا ينام وهو يسمع صرخة ابنه وهو يتلوّى قبيل نزع الروح، لا ينام وهو يطوف في شوارع عمان كممسوس، فالقتل كان أرحم له، لكنهم عاقبوه بالحياة المعذّبة!
النظام القمعي في سوريا ارتكب من المجازر ما يشيب له الرأس، والصمت عنه وعدم التدخل الدولي، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، لحماية المدنيين، هو خيانة للإنسانية لن يغفرها التاريخ، والصمت العربي حتى مع طرد سفراء النظام، هو مخز ومحزن ومشين!