من بين كل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهنا بالمملكة، تظل - بتقديري- البطالة هي أكبرها وأخطرها. عدد السكان لدينا يتضاعف بسرعة جنونية، والمعاهد والجامعات تدفع بملايين الخريجين في سوق عمل يقبل بعضهم ويرفض البعض.. فأين يذهب ملايين الشباب حين لا يجدون عملاً!؟ لو قارنا عدد السكان الآن عما كان في السبعينيات............
لوجدنا أنه تضاعف بنحو خمس مرات! ولعل هذا الانفجار السكاني يجيب جزئياً عن استفهامي في نهاية مقال سابق بأنه رغم مشاريع الإصلاح الاقتصادية، والنمو القوي للاقتصاد السعودي بميزانية هي الأعلى، وسوق أسهم يتحسن، وعروض عمل متوافرة (هناك ملايين من غير السعوديين يمارسون وظائف في السعودية)؛ إلا أن البطالة مرتفعة! وإذا كان اقتصادنا بهذه العافية، فكيف سيكون وضع البطالة لو تعرض إلى أزمات؟
نسبة العاطلين عن العمل بالسعودية (10.5 %) تشكّل مستوى فوق المتوسط عن المعدل العربي والعالمي. فلماذا لا تنخفض هذه النسبة عن المعدل العالمي؟ طرحت هذا السؤال الأسبوع الماضي، في ندوة بمهرجان الجنادرية، واستخلصت حسب دراسات عديدة أن أكبر العوامل المسببة للبطالة في السعودية هي ضعف مهارات وقدرات الخريجين، أي أن مخرجات التعليم لا تلبي الكفاءة المطلوبة لحاجة السوق. إضافة إلى أن هناك خريجين لتخصصات فائضة عن حاجة السوق كالتخصصات الدينية والنظرية الأخرى والعكس صحيح بالنسبة للتخصصات العملية والتكنولوجية والاقتصادية.
وقد اعترضت الدكتورة مرام مكاوي بأن «هذا السبب لا يفسر معاناة العائدين من الابتعاث في الحصول على عمل، وهم تخرجوا من أفضل الجامعات». ورغم قلة ما يواجهه هؤلاء مقارنة بغيرهم، إلا أنني أتفق مع هذا الطرح جزئياً فضعف مخرجات التعليم ليس السبب الوحيد، فسوق العمل السعودي بدأ يتركز الآن على القطاع الخاص لأن القطاع العام قد تشبع، وأعداد الشباب تتصاعد بحدة يصعب على القطاع الخاص استيعابها.
إنما لا يمكن أن نغفل أن القطاع الخاص يتطلب مهارة أعلى من مجرد شهادة تعليمية كان يقبلها القطاع العام كضمان اجتماعي أكثر من حاجة اقتصادية. فالقطاع الخاص ليس كالحكومي، بل يرتكز على مبدأ تجاري للربح والخسارة، والأجور التي يقبل بها الوافدون لا يقبل بها المواطنون. لكن تفضيل القطاع الخاص للوافدين على حساب المواطنين ليس سببه فقط تدني الأجور، فهناك وافدون رواتبهم عالية. هنا تظهر مسألة الكفاءة، والمنافسة في هذا المجال لصالح الوافد.
في تقديري يمكن تحديد ضعف مخرجات التعليم في إشكاليتين: كمية ونوعية. من الناحية الكمية نجد زيادة المواد النظرية على حساب المواد العلمية والتطبيقية التي يحتاجها سوق العمل. توضح بيانات مركز Ideation (2008) أنّ نسبة المواد الدينية في التعليم الابتدائي بالخليج كانت 31 % في السعودية تليها عمان 20 % فالإمارات والكويت 13 %. أما العلوم الطبيعية والرياضيات، فقد نالت 20 % بالسعودية ثم 22 % بالكويت و25 % بالإمارات و26 % بعمان.
الرياضيات والعلوم الطبيعية تعد من أهم المعايير في جودة التعليم، والمعدل العالمي يصل لحدود 40 %، والسعودية من أقل دول العالم في هذا المعدل. لذا أدركت دول الخليج ذلك، وبدأت تغييراً تدريجياً، فصار نصيب الرياضيات والعلوم 35 % لعمان و29 % للإمارات مقابل 12 % و9 % للمواد الدينية على التوالي للبلدين. وبمقارنة هذه النسب مع ما صدر عن كمية المقررات الدراسية الجديدة المطورة للمرحلة الابتدائية في السعودية، نجد أنها للمواد الدينية في حدود 30 % بينما لم تحظ نسبة الرياضيات والعلوم إلا على حوالي 24 % أي زيادة طفيفة للأخيرة عن النظام القديم قبل التطوير.
هذه الزيادة لمواد الدين واللغة العربية على حساب المواد العلمية التطبيقية تؤثر على الطلبة في التوجُّه المستقبلي نحو التخصصات غير العلمية حتى أولئك الذين لهم ميول علمية ورياضية. فمخرجات التعليم العالي تغلب عليها التخصصات النظرية والتربوية حيث تشكل 79 بالمائة من مجموع مخرجات التعليم في السنوات الخمس الماضية بينما يتجه الطلب إلى سوق العمل نحو التخصصات الفنية والعلمية التطبيقية (د. عبد الواحد الزهراني).
أما الناحية النوعية ومستوى التعليم فتتفق الدراسات على إشكالية اعتماد طرق التدريس لدينا على الحفظ والتلقين والحشو حتى في التخصصات التطبيقية، مع نمط تدريس تقليدي يحول الطالب إلى متلق سلبي تضعف فيه ملكة التفكير المستقل وتحد من إبداعه داخل تخصصه أو من قدرته على إيجاد فرص عمل له خارج تخصصه إذا تطلب الأمر. وهنا أشير إلى ما ذكر د. أحمد العيسى (مؤلف كتاب إصلاح التعليم في السعودية): «إذا أضفنا إلى عدم تناسب عدد الحصص الدراسية لمواد الرياضيات والعلوم الطبيعية واللغات مع أهميتها العلمية، مسائل أخرى مثل انغلاق البيئة المدرسية، واعتماد طرق التدريس على الحفظ والتلقين، وضعف مستويات المعلمين، فإنّ النتيجة المنطقية هي ضعف مستويات التفكير المنطقي، والتحليل والإبداع لدى الطلبة والطالبات، وبالتالي ضعف المخرجات بشكل عام».
ويفاقم سلبيات توجه الأغلبية للتخصصات النظرية، صرامة النظام التعليمي بحيث يكون الطلاب بعد الثانوي غير قادرين على تغيير تخصصاتهم من الأدبية إلى العلمية. فالتقسيم التقليدي الذي يفصل بين مسارات التعليم المهني والأكاديمي أصبح غير مناسب. ففي العديد من نظم التعليم الناجحة، يتم تزويد الطلاب بمهارات مهنية على قدم المساواة مع المهارات الأكاديمية استجابة للتطورات التكنولوجية وللتغيرات الاقتصادية..
وإن كان لي في الختام، أن أجمع أهم التوصيات لإصلاح البنية التحتية للتعليم وهي خلاصة دراسات عديدة، فالإصلاح يشمل المناهج والمدرسين والإدارة التعليمية وبيئة التعليم، والأولوية هي للتأكيد على أنّ للخريجين فرصة كبيرة للعمل وللمساهمة إيجابياً في الاقتصاد. ولا بد أن يرتكز إصلاح المناهج على عنصرين: ربط المناهج مع حصيلة الاقتصاد المعرفي والتطور التكنولوجي والاجتماعي (التوازن بين نسبة المواد النظرية مع العلوم الطبيعية والرياضيات)؛ وإعطاء الطلاب خيارات أوسع، عبر مرونة النظام التعليمي بحيث يكون للطلاب بعد الثانوي القدرة على تغيير تخصصاتهم. وينبغي التوجه لتطبيق الطرق الحديثة التي تحفز التفكير المبدع والعمل الابتكاري. ولا بد من رفع كفاءة المدرسين عبر التدريب المكثف، وتحسين البيئة التعليمية، وفعالية الإدارة المدرسية، مع دعم النشاطات اللاصفية كالرياضة ومجموعات العمل، والمشاركة خارج المدرسة في البيئة العلمية والثقافية المحيطة كالمسابقات العلمية والثقافية والمسارح والمتاحف ومجموعات حماية البيئة.. إلخ.
alhebib@yahoo.com