كانت السنوات الست، التي تلت نكسة أُمَّتنا العسكرية، عام 1967م، سنوات شهدت نشاط المقاومة الفلسطينية كما شهدت حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية مع العدو الصهيوني. وكانت منظمة فتح بجناحها العسكري «العاصفة» في
طليعة تلك المقاومة. لذلك لم يكن غريباً أن كنت من المتفائلين بما كانت تقوم به حينذاك، فقلت عنها:
الحلُّ عند الفتح «عاصفة «
تزداد عنفاً كل ملتحمِ
شهم فدائي وثائرة
وهجوم مقدام وضرب كمي
وكتيبة تَمضي فتخلفها
أخرى تحيط الأفق بالضَّرم
وفيالق في الدرب زاحفة
لتدك صرح عدوَّة الأمم
على أن المقاومة الفلسطينية - مع الأسف الشديد - أقدمت على ممارسة أعمال أَقلُّ ما يمكن أن توصف به هو أنها كانت خطلاً سياسياً وعسكرياً نتجت عنه فواجع في كلٍّ من الأردن ولبنان.
وفي منتصف تلك السنوات الست توفي الرئيس جمال عبد الناصر؛ وهو من هو جاذبية شخصية وتاريخاً داعماً لحركات التحرُّر من الاستعمار الغربي في الوطن العربي وأفريقيا. ومع أنه كان المسؤول الأكبر عن نكسة عام 1967م فإنه كان مُصمِّماً على استعادة ما فقده وطنه؛ مستلهماً موقفه من تصميم شعبه وتصميم قادة العرب، الذي تجلَّى في مؤتمر الخرطوم بلاءاته الثلاث المشهورة والدعم المادي الذي أبداه من أبدوه من أولئك القادة، ومعلناً مقولته الصائبة: «ما أُخِذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، ومبرهناً على تَبنِّيه ما أعلنه بالإقدام على حرب الاستنزاف على جبهة وطنه مع العدو الصهيوني. ولقد جاءت حرب 1973م لتثبت صحة تلك المقولة وتؤكّدها.
على أن مفارقات أحداث الزمن غريبة. فنكسة 1967م العسكرية الفادحة نتج عنها تصميم عربي على مستوى قادة العرب مدعومين بمشاعر شعوبهم. لكن ما حقَّقه المقاتل العربي على الجبهتين المصرية والسورية، عام 1973م، من بطولة وكفاءة لم يلبث أن كان من نتائجه تحويله إلى أداة مُمهِّدة للردَّة على تلك اللاءات الثلاث المشار إليها. وكان غياب الملك فيصل بن عبد العزيز عن هذه الدنيا، عام 1975م، خسارة كبيرة لأمَّتنا؛ لا سيما فيما يتعلَّق بقضية فلسطين بما فيها القدس، التي كانت الهاجس الأكبر له. وإني لأرى أن ذلك الغياب.. الخسارة.. كان أكبر الأسباب التي أزالت الكوابح، أو الموانع، أمام الرئيس أنور السادات ليقدم على ما أقدم عليه من ردَّة عمّا قرَّر قادة العرب، عام 1967م، في مؤتمر الخرطوم. ومن أسباب اقتناعي بذلك الرأي أن مما هو معروف لدى الكثيرين أن الملك فيصل بن عبد العزيز كان في مُقدَّمة من قرَّروا ما تَقرَّر في مؤتمر الخرطوم، وأنه الذي كان وراء دعم الجبهتين المصرية والسورية؛ مالياً ومعنوياً، للتهيئة لاستعادة ما فَقِد العرب عام 1967م، وأنه كان الداعم الأكبر لمصر في حرب 1973م بحيث قال الرئيس السادات: إن الملك فيصلاً كان البطل لتحقيق ما تَحقَّق من نصر في تلك الحرب. ولو لم يكن من إسهامه الكبير في تحقيق النصر إلا استخدامه البترول أداة في الوصول إلى ما تَوصَّل إليه لكفى. ومن يقرأ مذكرات كيسنجر يتبيَّن له عظمة موقف ذلك الملك من القضية الفلسطينية بالذات. وكل تلك الأمور تُرجِّح - إن لم يُقل تؤكِّد - أن السادات كان سيحسب ألف حساب لوجود الملك فيصل عند إقدامه على ما أقدم عليه عامي 1978 و1979م.
عندما تَبيَّن لي ما تَبيَّن من مواقف قادة العرب المهادنين للصهاينة بعد حرب 1973م كتبت قصيدة بعنوان «الأساطير» أشرت فيها إلى الأساطير التي كانت الجدة تحكيها للصغار ببراءة، وكيف كانوا يطربون لها، ثم كيف أصبحت لقادة العرب أساطيرهم المستجدة، التي تَدلُّ على تغيير مواقفهم من مُصمِّمين على رفض أيِّ سلام مع الصهاينة إلى منادين بالسلام معهم. وكان مما قلته في تلك القصيدة:
أمس قالوا:
لا سلامْ
مع أعداء العروبة
وأنا اليوم أُغنِّي وأزمِّر
لاقتراحات السلام
أمس قالوا..
أمس قالوا..
كل شيء قيل بالأمس تَّغَّير
كل ما قيل أساطير تُكرَّر
وأنا الغارق دوما
بين أسطورة جَدَّة
عندما كنت صبياً
وأساطير كبار مستجدَّه
بعدما أدركت أيام الكهوله
كل ما في الأمر أَني
كنت أصغي للأساطير فأطربْ
وأراني الآن أصغي
للأساطير فأعجبُّ
وكان خرق الرئيس السادات لسفينة الإبحار نحو شاطئ السلامة للقضية الفلسطينية ردَّة واضحة كل الوضوح عن تَطلُّعات أُمَّتنا. وما دام خرق تلك السفينة قد حدث فإنه لم يكن غريباً أن يَتَّسع الخرق، فيقدم الأقربون إلى القضية الفلسطينية، الذين كانت القدس تحت حكمهم، على اتفاق سلام مع الكيان الصهيوني، وأن يَتَّسع ذلك الخرق أكثر فأكثر، فيقدم أقرب الأقربين إليها؛ وهم الفلسطينيون، الذين شاء الله أن تكون مقاليد أمورهم في أيدي من كان أكثرهم - وما زالوا - يُمثِّلون الفشل في مواقفهم، على اتِّفاقية أوسلو سيئة البداية والمآل.
في عام 1980م؛ أي بعد عام من اتفاقية كامب ديفيد، كنت ممن تسرَّب اليأس إلى قلوبهم، فكتبت قصيدة عنوانها: « لا تسلني»، ومستهلها:
هكذا دارت دوليب الفلك
واختفى النور بأستار الحلك
والمُنَى الخضر التي رفَّت على
شفة الأمس بها الدهر فتك
أيها الساري وأشواك الرَّدى
ملأت كل طريق قد سلك
لا تسلني عن خفايا ألمي
إنما آلمني ما آلمك
الرُّؤى السوداء قَسمٌ بيننا
والأسى المُرُّ غذاء مشترك
والأحاسيس التي تغتالني
جُـِّدت أسيافها كي تقتلك
وكان ختامها:
لا تسلني أيها الساري ففي
عارضي تبدو جراح المعترك
لا تسلني أين أخطو؟ آن لي
في متاهات السُّى أن أسألك
إن تكن تبصر ومضاً خافقاً
في جبين الأفـق فاحملني معك
ولقد توالت سهام الكوارث المُوجَّهة ضد أُمَّتنا من داخلها ومن خارجها بعد اتِّفاقية كامب ديفيد المشؤومة. فكان اجتياح الصهاينة للبنان، وارتكاب مذبحة صبرا وشاتيلا وكان أن كتبت قصيدة بعنوان: «تساؤلات أمام العام الجديد»؛ عبَّرت فيها عن خواطر لاجئ فلسطيني على بوابة الحفل بمناسبة دخول ذلك العام. وكان مما قاله:
كنت أرجو أن أرى لي
في فلسطين بيارقْ
أن تعيد القدس من جيشي فيالقْ
أن أرى يافا الشجيَّه
تتباهى مثلما كانت
عروساً عربيه
كنت أرجو
كنت أحلم
كلّ عام مَرَّ بي نهر مصائب
ينقضي عام ويمضي بعده عام وعام
وأنا أغرق في نهر المصائب
***
وانقضى بالأمس عام
وُئدت فيه أحاسيس الكرامه
عَلَّمتني فيه أمريكا المهانه
عَلَّمتني كيف أصغي لترانيم اليهودْ
كيف تختار الزعامات لشارون السجودْ
كيف تهدي جنده المحتل باقات الورود
***
أَيُّ عام ذلك العام الجديد؟
ما الذي تخفيه من أسراه سود الليالي؟
تركت من قبله بيروت آلاف السواعدْ
وأقام الغدر في صبرا وشاتيلا مجازر
كم لنا في غيبه الفتَّاك
من صبرا وشاتيلا
وبيروت جديده؟