ورغم أن أغلب أهل الفساد موجودون في بيئات مسلمة إلا أن هذا النوع من الناس لا يفكرون في مصدر المال وحق امتلاكه وحيازته من حيث الحلال والحرام،
وكل ما يهمهم هو مقدار ما يحصلون عليه، وجيوبهم وكم تحتويه، وليس لهم من ضمائرهم ما يؤنّبهم سوى عقدة العيب فهي تلاحقهم مهما حاولوا أن يتجاهلوها بسبب كثرة ما يشاهدونه من دمار ويسمعونه من إنكار، وتُوحي به إليهم أفعالهم المحظورة، وتصوّره لهم عيونهم المكسورة، وكلما ابتعد عنهم الحياء ارتد عليهم الخجل، بسبب نظراتهم الخجولة وممارساتهم غير المقبولة، وأملهم معقود في أن ما في الجيب فيه ضمانة لحل عقدة العيب خاصة كلما تقادم الزمن وتزامن مع هذا التقادم اعتياد عادة الخطأ المأثور، وتلاشي التفكير في الصح المهجور، مضافاً إليها النسيان والنفاق الاجتماعي ودورهما في فعل مفعولهما.
وأفعال الخير تنعكس آثارها على أهلها، وكذلك أفعال الشر، ويختلف حجم الآثار المترتبة باختلاف المؤثّر وطبيعة الفعل، ومكانة الفاعل، ومدى قدرته على التأثير في مَن حوله، فالفساد المالي الذي يحدث على مستويات فردية، ويمارسه نوعيات دونية، لا يقارن بذلك الذي له علاقة مباشرة بمصالح المجتمع، ويتعاطاه جهات ذات سلطة ومسؤولية تجاه هذا المجتمع.
وممثّل السلطة إذا ما استمرأ نهب المال العام وسلب حقوق المجتمع، وانتقلت العدوى واتسع محيطها أفقياً ورأسياً أصبح المال دولاً بين أصحاب السلطة وأرباب المال، وانحصرت الثروة في فئة قليلة على حساب الأكثرية، وظهرت الطبقية بكل آفاتها، ونجم عن ذلك امتزاج الفساد المالي مع أشكال الفساد الأخرى، واستفحل أمرها، وعظم خطرها، وتعطّلت المساءلة والمحاسبة، واقتصر تطبيقها على الطبقة الأدنى، وانطبق قول عمرو بن عبيد عندما رأى سارقاً يُقام عليه الحد، فقال متهكماً: لا إله إلا الله سارق العلانية يعاقب سارق السر، أو بمعنى آخر سارق النهار يعاقب سارق الليل، وكما قال الشاعر:
إذا سرق الفقير رغيف خبزٍ
ليأكله سقوه السمَّ ماء
ويسرق ذو الغنى أرزاق شعبٍ
برمته ولا يلقى جزاء
وقال آخر:
ذئب الفقير له شتمٌ ومنقصةٌ
وذنبهمْ فيه تهليلٌ وتكبيرُ
لا يؤخذون بما غلُّوا وما اختلسوا
كأنما العلم للإجرام تبريرُ
واقتصار الثروة على فئة قليلة من المجتمع، وتكدس المال في جهة وتضاؤله في جهة أخرى، يثير المفاسد، ويبعث الحسد والضغائن والأحقاد، ويجلب الظلم، ويدفع أربابه إلى الترف والاستعلاء على الآخرين، واستغلال حاجة الطبقة الأدنى استغلالاً يترتب عليه ممارسات هابطة وتصرفات ساقطة، تختفي معها العدالة الاجتماعية، ويحل محلها الملق والنفاق والخنوع من قبل الفقراء مقابل الظلم والاستبداد والطغيان الذي يمارسه أصحاب الثراء الفاحش.
وهذا هو شعار الفساد المالي ودثاره، فتراكم الثروة ما كان ليحدث لولا فساد مصادرها، وخبث التصرّف فيها، وما بني على باطل فهو باطل، إذ إن ما آل إليه استخدام هذه الثروة من سوء الحال، وجرّه من الوبال، ما هو إلا تتويج لرداءة الاكتساب ونوع من العقاب، وهو أمر يتطلب من المجتمع من أعلى قمة الهرم إلى قاعدته محاصرة هذه الظاهرة والقضاء عليها، وهي لا تزال في بداياتها، وإيجاد نوع من الاعتدال والتوازن، وقد قال عمر بن الخطاب إني وجدتُ صلاح المال في ثلاث: أن يُؤخذ من حق، ويُعطى في حق، ويُمنع من باطل.
وينبغي ألا يتسرَّب إلى ذهن أحد بأن ثمة دعوة للتساوي بين الناس في الثروة، فالتساوي في الكرامة والمعاملة الإنسانية، وأحكام الشارع الخاصة بالتملّك والتنمية والتصرّف وما في حكمها، أما حيازة المال فالعدل فيها يستدعي اختلاف معدلات اكتسابه ومستويات تحصيله بين شخص وآخر والفوارق لا بد منها، والفاضل والمفضول لا إشكال في وجودهما تبعاً للجهد المبذول والفرص المشروعة والجزاء من جنس العمل، وكل جهدٍ له جزاء والتوفيق خير قائد، مع الأخذ في الحسبان أن الوسائل النظيفة لا ينجم عنها تكدس فاحش للثروة، ولا يترتب عليها فوارق متباعدة بين الطبقات، والتضخم المنكر مرده إلى مصادر منكرة ووسائل قذرة ولا يُضار أحد لمصلحة آخر، ومصلحة الجماعة مقدَّمة على مصلحة الفرد، والمصلحة العامة فوق المصالح الخاصة.
ومبدأ من أين لك هذا كفيل بردع شاغل المنصب من استغلال وظيفته لجمع المال بطريقة غير مشروعة، وقد كان عمر بن الخطاب تأسياً بهذا المبدأ يأخذ نصف ثروة الوالي المتهم باستغلال سلطان الولاية، وذلك لاختلاط الثروة الخاصة لهذا الوالي بالمال الذي استولى عليه بحكم سلطته، وكان يقول: «لي على كل خائن أمينان الماء والطين»، وله موقفه المعروف ومقولته المشهورة مع عامله على البحرين، وفي تطبيق هذا المبدأ والأخذ بالمصلحة المرسلة ما يجعل ممثّل السلطة يفكر أكثر من مرة قبل الإقدام على أخذ المال العام، واستحلال الحرام، محاسباً نفسه قبل أن يُحاسب.
والفساد المالي يتخذ صوراً متعدّدة، وله مظاهر لا تخطئها العين، وأبرز ما يدل على هذه الصور والمظاهر هو تراكم الثروة وامتلاكها من قِبل فئة خاصة تستأثر بها دون بقية المجتمع، وتحصل عليها بوسائل تتعارض مع حق الملكية المشروع، ومظهر إطلاق العنان للتصرّف في الثروة لصيقٌ بمظهر تضخمها، فالحرية المطلقة للتصرّف في الأموال على نحو يفسدها ويبددها يمثّل مظهراً من مظاهر الفساد، وكذلك اختفاء الأمانة في التعامل، ونقض المواثيق والعهود، وتعطيل العقود، والتعدي على حقوق الآخرين وهضمها، وبخس الناس أشياءهم، ومن المظاهر أيضاً زيادة الإنفاق مقارنة بالعائدات، وتحول المجتمع إلى مستهلك أكثر منه منتج، وشيوع ظاهرة الربا والاتجار بالمحظورات، وهذه المظاهر مهما غلب عليها طابع الاستقلالية عن مظاهر أشكال الفساد الأخرى، وبرزت بصورة واضحة فإن ذلك لا يلغي تداخلها والتقاءها مع غيرها من حيث الآثار والأضرار، بوصفها تتكوّن وتتلوّن وفقاً للبيئة المحيطة بها، وتبعاً للتجاوب مع معطياتها والتأثير فيها والتأثر بها.
وهذا الفساد له أسبابه التي تساعد على ظهوره، وتدفع به إلى العلن، وهي أسباب يفرضها واقع المجتمع، والأوضاع الاجتماعية التي يعيشها هذا المجتمع، وتحيط بحياته وتتحكّم في تعاملاته المالية، ويأتي في مقدمة هذه الأسباب الجهل والبطالة والفقر، والتباين الطبقي بالنسبة لزيادة الثروة، وما له من مردود مدمّر على المعاملات المالية والتشجيع على نمو الفساد واستشرائه، والسبب الجامع لهذه الأسباب هو مخالفة المنهج الإسلامي فيما يتعلّق بالحصول على المال وحرية التصرّف فيه على نحو يخرجه من ضوابطه الضابطة وأحكامه الحاكمة، وكل ما خالف الدين وتحلّل من قيوده، وخرج عن حدوده، فهو مصدر للفساد ومرجع له تنطلق منه أسبابه وترجع إليه مسبباته.
وبمجرد النظر إلى أسباب الفساد المالي وأعراضه، تتجسد أمام الناظر آفاته وأضراره فهو يشكِّل خطراً على أمن الدولة واستقرارها، ويعرّض التنمية المستدامة فيها للانهيار، ويؤدي إلى العبث بممتلكات هذه التنمية، ويلحق الأذى بالصورة الوطنية للدولة، مهدداً مركزها السياسي، ومضعفاً عوامل القوة فيها، كما يقوّض مؤسساتها ويهدم كياناتها، ويجعل العدالة الاجتماعية فيها في مهب الريح وتحت وطأة الفساد تختفي المؤسسات الإصلاحية ويحل الفساد محل الإصلاح، وتفسد الأخلاق، وينعدم تأثير القيم والمثل، وتنعكس مفاهيم المجتمع وتنقلب موازينه. والفساد له صلة بأشكال الجريمة وهو المحفز الرئيس لتفشيها وانتشارها.
ومن الواقعية التعامل مع ظاهرة الفساد المالي باعتبارها واقعاً معاشاً لا مندوحة من التسليم بوجوده، والاعتراف بالمحظور يقود إلى ترك اقترافه وتشخيص المرض هو المدخل إلى علاجه، وما الهيئة الوطنية التي أنشأها خادم الحرمين الشريفين إلا ترجمة عملية لواقعية القيادة وحكمتها، واستجابة لما يجول في صدر كل مواطن ويشغل باله ويتملّك أحاسيسه، من جراء ما تتناقله الألسن ويتردد على الأفواه، ويشهد له الواقع بشأن الفساد وممارسات المفسدين.
ومكافحة هذا الوباء الخطير ومعالجة آثاره، كما ينص على ذلك الأمر السامي تتطلب من الهيئة معرفة أسباب الفساد ووسائل اقترافه وعلامات انحرافه، ومن ثمّ تعقّب أثر المفسدين للوقوف على حقيقة هذا الفساد وتحديد أبعاده ومعالمه، وما هي الأدوات المستخدمة والوسائل المتوسلة والأساليب المتبعة من قبل أهل الفساد ورعاته.
وحتى تكون المكافحة ناجحة، فإن ذلك يحتم على الهيئة سرعة المبادرة بالمكافحة وكبح السلوك الفاسد عن طريق الموازنة بين مكافحة الفساد وبين الواقع الفاسد، فكل خطوة فاسدة يتزامن معها ويقطع الطريق على غيرها خطوة إلى الإصلاح بالصيغة التي تتقدّم معها عملية المكافحة وتتراجع أمامها محاولات الفساد، والتوعية بمخاطر الفساد والحث على تركه ورصد حالاته والشهير بالمفسدين، كلها خطوات تستلزم وجود الدلائل الواضحة، وإيجاد الوسائل الناجحة والبدائل الصالحة لكي تُؤتي عملية المكافحة ثمارها ويستقيم مسارها نحو الهدف المنشود.
وأول الطرق إلى الوقاية من الفساد ومقاومة حدوثه هو إزالة أسبابه والحد من انتشاره والتخلّص منه تدريجياً، وذلك بوضع ضوابط تحول دون ارتكابه، ومصارحة المفسد ومواجهته بإفساده مع التوعية بحرمة المال العام وحدود وقيود التصرّف فيه، بالإضافة إلى توفير البدائل وخلق البواعث والحوافز التي تساعد على إيصاد الأبواب في وجه الدواعي الداعية إلى الفساد والذرائع التي تؤدي إليه، والتأكيد على ما سوف يواجه كل مفسد من المساءلة والمحاسبة والمعاقبة الرادعة.
وهذا الفساد له بؤر يجب التعامل معها بصرامة لمنع امتداد تأثيرها، وتحديد الحدود الفاصلة والقواسم المشتركة بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة، وكذلك توضيح الحقوق والواجبات الجماعية والفردية، واستثمار الجانب الإيجابي للفساد، وهو التنبيه إلى السلوك الفاسد، والتذكير بأن ثمة انحرافات يلزم تعديلها، ووضع المجتمع أمام نفسه لينهض من كبوته ويستيقظ من رقدته، مصوّباً سلوكياته، ومتحمّلاً مسؤولياته، ومراقباً ذاته، ومحاربة الفساد القائم فيها حصانة ضد الفساد القادم ومن أصلح فاسده أساء حاسده.