في أحد أيام القرن التاسع عشر نضح فكر شاب إيطالي بفكرة اكتشاف وسيلة تمكنه من إرسال رسائل عبر الهواء من دون أية أسلاك أو أي وسائل اتصالات مادية, ولكن بعد تصريحه بما يجول في فكره بسويعات حتى جاء أصدقاؤه وقادوه إلى مستشفى الأمراض العقلية ليحجز هناك؛ ظناً منهم أن الحديث هذا ما هو إلا هذيان مجنون..!
و لكن لو لم يكن هذا المجنون برأيهم مؤمنا بنفسه وبقدراته لما اُخترع الراديو واللاسلكي فيما بعد.. ورجلنا هذا هو العالم الإيطالي “ماركوني”.!
لهذا يتراءى لي أنه نوع من العمى يصاب به الإنسان فيُرى الإبداع مرضاً عقلياً. وهذا قد يفقدنا الكثير من الإنجازات والتطور الذي قد يخدم الإنسان. وامتداده في طغيانه سيكلف البشرية ومسيرة الحضارات الشيء الكثير..!
قيل: (ليس أخطر على دولة ما من “الخلط” بين المكر والحكمة)..
فحينما يصف لنا علم النفس اضطراب الشخصية السيكوباتية بأن المصاب به يجيد تمثيل دور الإنسان العاقل والذي له القدرة على التأثير في الآخرين والتلاعب بأفكارهم, وعند مقابلته ربما تنبهر بلطفه وعذوبة كلامه وبمرونته في التعامل وشهامته الظاهرية المؤقتة.. ولكن حينما تتعامل معه لفترة كافية تجده شديد الاضطراب وحياته مليئة بالتجارب الفاشلة والتخبط والأفعال اللا خلقية..
شخصية لا يهمها إلا نفسها وملذاتها فقط. فبعض من المصابين بهذا الاضطراب ينتهي بهم الحال إلى السجون وبعضهم يصل إلى أدوار قيادية في المجتمع نظراً لأنانيتهم المفرطة وطموحهم المحطم لكل القيم والعقبات والتقاليد والصداقات في سبيل الوصول إلى مرادهم.
وفي الأوساط الاجتماعية بشكل عام نصفه بـ(الذيب) لاعتقاد البعض امتيازه بذكاء حاذق وعصامية ومهارات..!
وهو في جلّ الأمر ما هو إلا إنسان مضطرب.. والاضطراب أمر لا ثناء عليه.!
و كذلك الحال مع من يعانون من اضطراب نقص توكيد الذات.. يعاني صاحبه من الداخل بينما في خارجه يتلقى المديح والإطراء, ففي عمق مجتمعنا نقلّد الميدالية الذهبية للمرأة (الأجودية) التي تستميت من أجل إرضاء الآخرين دوماً..وتهمش ذاتها ليبرز غيرها؛ وتذيب رأيها الشخصي على نار هادئة من أجل رأي المجموعة..هي في واقع الأمر ليست بحاجة للمديح بقدر حاجتها للعمل على توكيد ذاتها..!
فهذا الذي نرصده في تفاصيل العلاقات الاجتماعية من تخبط كارثي وعشوائي ما هو إلا خلل في تحكيم النظرة الصحيحة إلى الصفات السليمة نفسيا.. وهو بطبيعة الحال أمر لا تحمد عقباه.
فـ(بنت الحمايل والأجواد) هي المرأة التي نشاهدها تغرق وبدلاً من إنقاذها نصف لها البحر..هي (إنسانة) تقاسي وتعاني حياة زوجية تعيسة بكل المقاييس ولكنها لا تتجرأ في طلب الانفصال أو أن تسرّح بإحسان لأنها بذلك ستخرج وتخرج أهلها معها من بوتقة (الحمايل والأجواد) لأن من أهم مواصفات هذه البوتقة أن المنتمين لها من الإناث عليهم أن يصبروا ويعانوا الأمرين من أجل ألا تُهدم بيوتهم ويوصموا بعار الطلاق..!
فأمسينا على حالنا هذا نسمي الأشياء ونصنفها وفقاً وتبعاً لمصالحنا وأهوائنا.. فأمر الخلط هذا وبلا شك جاء نتيجة تراكمات قديمة بحاجة إلى التحلل أكثر من تكالب الجهود لدعم هذه المحصلة النهائية وتغذيتها..!
فحين نصف الأسود بالناصعة والبياض بالحالك.. حينها فقط سيتطهر السواد ويتدنس البياض وسنكون في حالة من اللا وضوح وسنهوي في عمق توغلنا في غابة من التعقيد والاضطراب وضياعنا بين هذه المتناقضات.
و هذا الخلط تجاوز الحدود الحمراء واصلا إلى منطقة الإثم, حينما مُزجت العادات والتقاليد بتعاليم الإسلام المنزهة..
(فيستنكر) بعضنا تعاليم سماوية لأنها لم تدرج ضمن العادة و(أُبيحت) عادات لم ينزل الله بها من سلطان لأنها جرت مع العادة والعرف..!
فعلى سبيل المثال تقدم البنت لخطبة الشاب وليس العكس كما هو متعارف عليه. فالسيدة خديجة رضي الله عنها خطبت الرسول محمد عليه السلام لنفسها..
والآية الكريمة التي قال فيها عز وجل: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ... (القصص26 - 27).
فسلام الله على ابنة النبي شعيب عندما نبهت أبيها على وجود شاب شريف ألا وهو رسول الله موسى.. وسلام الله على أبيها حين فهم المغزى من كلامها وخطب موسى عليه السلام لها.
ذهب السنابل: (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس) الرسول محمد عليه السلام.
Lec.22@windowslive.com