هل أصابت عقول الجماهير العربية لوثة الخروج إلى الشارع والاستعداد للتضحية ومواجهة الدبابات والأسلحة الثقيلة بصدورهم العارية، أم أن الأمر في حقيقته لم يكن موجة عابرة قد تنتهي قريباً، ثم يعود الأمر كما كان سابقاً، بل تراكم بطيء وطبيعي للوعي الجماهيري، وما يحدث في سوريا وغيرها من الدول العربية مثال على الوصول إلى مرحلة الخروج غير المكترث بالمخاطر، فالجماهير وصلت إلى مرحلة اللا عودة، فلم تعد تخاف وأصبحت تبحث عن أي سبب للخروج والمظاهرة في الشارع، مع أن تاريخ الفساد والاستبداد في العالم العربي ليس جديداً، فقد تم إعدام عشرات الآلاف في شوارع حماة قبل عقدين، ولم تحدث ثورة شعبية، بينما في الوقت الحاضر يُقتل الآلاف في الشوارع، ومع ذلك لا تتوقف الجماهير عن الخروج والتظاهر.
ظاهرة الثورات الشعبية في تاريخ العرب والمسلمين متكررة إلا أن أدبيات النخب كانت دائماً ما تصف الجماهير بالسلبية، فأحياناً يصفونها بالغنم السائبة إن تعذر راعيها، أو الإبل التي تحتاج إلى من يقودها، والكائن المريض الذي يحتاج لاسترداد عافيته إلى الدواء السلطاني، والجيفة أمام النسر، أو حصاة يجرفها السيل، والقطيع والسوقة والعامة، ويأتي وصف الدهماء أو الناس الكثيرة في مقابل الأقلية أو النخبة والسلطة، بينما يحمل لفظ الرعاع نظرة احتقار واستعلاء غير مبرر، وقد حذّر بعض الفقهاء من فوضى العوام على أنها غوغاء وفتنة لا تحمد عقباها، بينما يرى جانب آخر منهم على أنهم نبض يجب احترامه وتقدير حقوقه وحاجاته، لكن التطور الإنساني في الغرب رأى غير ذلك، فقد وصلت الثقافة الإنسانية أخيراً إلى الاتفاق على أن مصطلح المجتمع المدني صيغة أقرب إلى الواقع، تدخل فيها مختلف فئات المجتمع وشرائحه، وتقر شرعية تأهيل الجماهير وتنظيمها في مؤسسات تحد من فرص الخروج الفوضوي.
تجيد السلطة فن التعامل مع من اتفق عليه بالنخب، فوسائل الترغيب والإرهاب والإقصاء والعقاب والعصا والجزرة تفيد في أغلب الأحيان في تغيير سلوك بعض رموز النخب، ويساعد في ذلك الانقلابات الفكرية التي يمرون بها، فبعضهم يبدأ مناضلاً ثم ينتهي به الأمر مسالماً ونديماً في مجالس السلطان، بينما يأخذ آخرون سبيل آخر وهو التسلق حتى التمكن ثم ينقلب ويزايد من أجل مكاسب أخرى، لكن ذلك لا يعني وجود أقلية لا تجيد التغيير أو استبدال المواقف بأخرى، كذلك لا يعني أن هذه النخب المتمردة قد تقدم فكراً أقل تسلطاً وتسامحاً من السلطة القائمة، فقد جاءت الفاشية والنازية والشيوعية من فوق جثث الجماهير الثائرة.
في جانب آخر، تفشل السلطة التقليدية في كثير من الأحيان في تنظيم أساليب التعامل مع الجماهير، وأن التعامل معها لا يحتاج إلى أساليب متطورة مثلما هي الحال مع النخب، فإحكام الأمن في الشوارع ونشر الخوف والذعر بينهم قد يؤدي الغرض في فرض الطاعة على الجميع، تماماً مثلما يستطيع الراعي الجيد إحكام السيطرة على قطيع الغنم، لكن ذلك لا يتجاوز كونه حلاً مؤقتاً قبل حدوث الكارثة، وذلك لأن سيكولوجيا الجماهير تختلف عن سلوك النخب، والسبب خضوع حراك الجماهير التام لقانون السنن والطبائع الكونية، ولهذا يتميزون بالسكون لفترات طويلة في مراحل مستعصية الحراك، تماماً مثل القطيع والرعية وغيرها من المصطلحات التي تعني الرضوخ والطاعة المطلقة، لكن ذلك لا يعني عدم وجود تراكم تدريجي للوعي، ثم الانتقال النوعي غير المرئي من مرحلة إلى أخرى في نماذج غير ظاهرة للسلطة، ويستمر التراكم إلى أن يصل إلى عتبة الانطلاق أو درجة الغليان، ثم ينفجر الوضع، وتنقلب الأحداث، وتحدث الفوضى إلى أن يشاء الله لها مخرجاً.
في نهاية الأمر قد تنتصر فئات نخبوية جديدة على السلطة القديمة وهكذا، لكن يظل الامتحان الحقيقي للسلطة التقليدية أو الجديدة في العالم العربي في كيفية التعامل مع الجماهير من أجل إيقاف تراكم مراحل الخروج مرة أخرى، وقد يحتاج ذلك إلى اختيار سبل المواجهة بعناية مع الجماهير قبل جنونها، وأثبتت التجارب التاريخية أن طرق العنف والتهديد والترهيب لا تنجح في بعض الأحيان، ولكن بالتأكيد قد تحقق طرق المكاشفة والشفافية نجاحاً كبيراً، وقبل ذلك على السلطة التقليدية أن تقدر متطلبات العصر المختلف، فالزمن اختلف والناس تغيرت، ولا سبيل عن بدء مرحلة الاستعداد الذهني من أجل بدء صفحة جديدة في تاريخ الأوطان العربية، قوامها المشاركة وفتح أبواب التنظيم السياسي كجدار منيع ضد الفوضى والتنظيمات السرية على صفحات العالم الافتراضي.