حتى نهاية بداية المرحلة الأولى من الثورة العربية المباركة في سورية الشقيقة، كانت الأمور تسير من قبل النظام الحاكم وفق معطيات أساسها إمكانية إخماد الثورة ليس حقناً للدماء البريئة الطاهرة كما سنكتشف خلال هذا المقال بل للحفاظ على مكتسبات الكرسي الرئاسيالذي تم توريثه في ذلك النظام وكاد أن يستمر.
لكن ما إن استمرت الثورة وخرجت من عباءة السيطرة الحكومية وأثبتت للنظام الحاكم أن محاولاته في السيطرة عليها وإخمادها والتي تتلون بلون دماء الأبرياء من المدنيين والعسكريين المنشقين الشرفاء لا يمكن أن يُكتب لها النجاح بل إنها تزيد الأمر تعقيداً وصعوبة.
مواجهة السلطة القمعية للمظاهرات السلمية من بداياتها أو لنقل من ساعاتها الأولى بالقتل وسفك الدماء زاد في إشعالها وامتدادها في عموم سورية، كما أن إصرار النظام على معالجتها بالطريقة الأمنية البشعة والمنقرضة جعل عدد ضحاياها عشرات آلاف من القتلى وعشرات الآلاف من المعتقلين فضلاً عن عشرات آلاف من المشردين لدول الجوار.
كان أول هموم أولئك المتظاهرين إصلاح النظام ودفعه للقيام بتغييرات اقتصادية تكفل الحدود الدنيا للعيش الكريم وتوفر الحد الآدمي الأدنى لحرية الرأي ونزع الطريقة الاستبدادية العسكرية التي تُدار بها أمور وشئون الدولة، تلك الطريقة التي كانت تفتك بالمدنيين إن هم أقدموا على تجاوز ما وُضع لهم من خطوط حمراء تكاد لا تتجاوز حدود أجسادهم الجغرافية، أقول جميع ما سبق دفع بالثائرين إلى رفع سقف المطالبة بسقوط النظام ورحيله.
تأخرُ النظام السوري الوحشي والدموي في مباشرة الإصلاح، ومواكبته للطريقة التي نجح فيها بشار في إدارة التغييرات المعلوماتية الإلكترونية إبان وفاة والده، وصلفه وغروره في قراءة أحداث الربيع العربي، وطغيانه واستبداده والداً وولداً، جعل تدميره في تدبيره، ليواجه في كل حلوله التي مضى إليها بحمقه ومكابرته طريقاً مسدودة لا مخرج له منها. وكما قتل الأب أكثر من مئة ألف ومثلهم من المعتقلين، وأضعافهم من المهجّرين، فإن الابن يعيد الكرة منذ أحد عشر شهراً بطريقة أكثر وحشية وهمجية.
إنها عصابة من المرتزقة التي تقربت للنظام الحاكم عبر إعلان انتمائها للحزب الاشتراكي الذي جعل من أسوار المرافق الحكومية سواءً مدارس أو مستشفيات أو وزارت لوحات لإعلاناتهم القومية الرنانة التي تبعث في نفوس هذا الشعب العربي الأصيل حماسة صلاح الدين الأيوبي، والتي لا تخلو من المفارقات العجيبة، فتجد سوراً لمرفق حكومي وقد كُتب عليه بخط كبير وجميل “ قاطعوا البضائع الأمريكية” بينما يقف طفلاً لا يتجاوز العاشرة من عمره وهو ينادي عليك وعلى المارة مروجاً لبيع السجائر المصنوعة في أمريكا والمهربة طبعاً من دول الجوار. أعود لتلك الإعلانات التي تحمل مفردات رنانة عفا عليها الزمن لقيادة وتحريك عواطف الشعب واللعب على وتر الانتماء والولاء كأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة وشعار نعم للحزب العربي الاشتراكي وغيرها من شعارات التحريض التي ما فتئ النظام يذكر بها شعبه لتخديره وطمأنته بأن البلاد بأيد أمينة وأن تقديم القومية والعروبة على الرفاهية والعيش الكريم هو متطلب فرضه الضمير الحزبي للنظام الحاكم الذي لم يتطرق يوماً لتحرير أرضه المحتلة من قبل إسرائيل بل إنه لم يسلط يوماً الضوء على اختراقات العدو المتكررة للجولان وإهانة سكانه المحليين القرويين.
رفع السوريون مجبرون أعلام حزب الله الصفراء على أبنيتهم بل قاموا برفعها في شوارع دمشق ووضع صور رموز ذلك الحزب على زجاج السيارات والمحال التجارية عند إعلان إسرائيل إيقافها الحرب على لبنان الشقيق بعد أن دمرته تقريباً بالكامل كما شاهدنا بأم أعيننا عبر القنوات الحكومية والخاصة، وصدق عامة الشعب السوري بفعل قوة وتأثير وسائل إعلام النظام أن إنهاء إسرائيل لحربها على لبنان في تموز 2006م هو هزيمة نكراء تكبدتها إسرائيل على أيدي أفراد الحزب الذي ذهب منه المئات، ذلك لاستعداد السوري المواطن لتلقف أي خبر صادر عن قيادته بفعل تكريس نظامها لنظرية المؤامرة وإيهام المواطن بأنه في حالة حرب مستمرة مع العدو الصهيوني باعتبار أنه من رعايا دولة مواجهة وممانعة، حتى بات السوريون ينسون ما فعله الأسد الأب في حماة، وما يفعله الأسد الابن من اعتقالات وتعذيب وإهانات لكل من تسول له نفسه الاعتداء ولو بكلمة على حرية مصادرة منه أساساً.
ثم بعد ذلك كله يأتي الأسد الابن ليطالب بالحوار مع قوى المعارضة، لن أنعت هذا النظام البائس بالأحمق أو بالمسخ، لكنني أتساءل أي حوار يبحث عنه وبأيدي أفراد جيشه وشبيحته آلات القتل والتعذيب، حوار ينفيه توحش في القمع وانعدام في الإنسانية وقتلٌ للشعب، وسيول من دماء طلاب الحرية والكرامة سالت في أنهر المدن لتعويض المياه التي شحت فيها.
أما آن الأوان لأن يعلن هذا القائد المناضل الفذ الجهبذ الفريق الباسل وباقي الوصوفات التي تعودت أذانه على سماعها من مرتزقته، أما آن الأوان لأن يحقن دماء ما تبقى من شعبه ويرحل، أليس في رحيله إيقافاً لآلة القتل العمياء التي لم توقر شيخا أو عجوزا أو طفلا. ماذا يريد بعد أن عرف العالم كله أن وجوده بات من ضروب المستحيل وأن من يراهن على استمراره سواءً باستخدام حق النقض أو بالمساندة الإعلامية واللوجستية أن وجوده واستمراره لم يعد مقبولاً إطلاقاً. أيرضي هؤلاء أن تُسال الدماء في شوارع المدن لمجرد إبقاء نظام نتن مسخ رائحته أزكمت الأنوف. متى يعي هذا المعتوه المتهور أن إعلانه الرحيل اليوم قبل الغد قد يحفظ له قليل من احترام لدى القلة في العالم الذين ساندوه، بل لعل غيرهم ينضمون لهم باحترامه إن هو أعلن رحيله إلى غير رجعة حقناً لدماء رجال دافعوا عنه وعن بلادهم سنوات طويلة. قالت طفلة لم يتجاوز عمرها التسع سنوات ذات يوم وهي تشاهد ما يحدث عبر التلفاز صدفةً، (أنا والله ما أدري وش يحس فيه ملكهم - كناية عن رئيسهم - وهو يشوف أبناء بلده يقطعون ويشوهون بهذا الشكل). إلى لقاء قادم إن كتب الله.
dr.aobaid@gmail.com