تواصل معي عبر الانترنت مرات عديدة من العراق، منطقة (أبو غريب)، هذه المنطقة التي أصبحت معروفة عالمياً من خلال سجنها الرهيب الذي كشف للناس حقيقة دولة (الفيتو) راعية الديمقراطية، وكان في تواصله حزيناً لما يجرى في عراقنا الجريح من المآسي، معبراً عن معاناته بصفته إمام مسجد يصلي بالناس، ويعلمهم الخير، ويلقي عليهم خطبه يوم الجمعة مواسياً، حاثاً الناس على الصبر، والتكاتف في مواجهة آلة القتل الرهيب التي تجري بقسوةٍ لا تعرف اللين.
فوزي العراقي، تواصل معي بعد ذلك بالهاتف، وقد هرب من العراق إلى سوريا قبل أكثر من عام، طالباً الدعم بالدعاء، فهو على حد قوله لا يريد إلا الدعاء والدعم المعنوي، فقد لاقى هو وأهله من الويلات منذ الاحتلال الغاشم للعراق، ما يهز الجبال الرواسي.
فوزي العراقي، التقيت به في مكة المكرمة في المسجد الحرام، حيث فاجأني بعد صلاة عصر ذلك اليوم بإقباله علي ومعانقته لي قائلاً: الحمد لله الذي جمعني بك في هذا المكان الطاهر، بعد أن منّ الله علي وعلى أسرتي بالوصول إلى المملكة العربية السعودية بلد الأمن والإيمان، ثم عرفني بنفسه ذاكراً لي اسمه فرحبت به، وعبرت له عن سعادتي بلقائه.
فوزي العراقي، لقي من عناية من تواصل معه من أهل هذا البلد الطيب ما واساه، وخفف من وطأة آلامه، ثم تواصل - كما أخبرني - مع فضيلة الشيخ سعد البريك، فسعى له في الحصول على إقامة، فكان له ما أراد، وقد روى لي حادثة جرت له في مسجده في العراق، حيث كان يتحدث إلى المصلين بما يرقق الأرواح من أحاديث الموعظة الحسنة وتفسير القرآن، ففوجئ بأشخاص مقنعين يهاجمون المسجد قاصدين قتله، فتهيأ له الخروج مع عددٍ من الناس دون أن يصلوا إليه، فما كان منهم إلا أن أطلقوا النار على المصلين فقتل عدد منهم، وجرح أكثر من أربعين مصلياً، وهي حادثة تركت في نفس فوزي جرحاً لم يتهيأ له الاندمال.
فوزي العراقي، طلب منه الشيخ سعد الاتجاه إلى الرياض لإكمال إجراءات الإقامة، فكاد يطير من الفرح، وكيف لا يفرح وهو الآن يشعر بالاستقرار بعد شهورٍ من القلق؟ اتجه إلى الرياض مودعاً زوجته وأولاده، وهم في غاية السعادة بهذا الخبر الجميل، ركب سيارة الأجرة مع الراكبين، واتجهوا من مكة إلى الرياض منطلقين، وكأني بفوزي يود لو أن السيارة تحلق بجناحين كجناحي الطائرة لتصل إلى الرياض حيث تنتظره الإقامة، وكأني به يرسم أجمل الصور لحياة الاستقرار، وأجمل الصور لدعم أهله الباقين في العراق الجريح.
لم يمضِ من وقت السفر أكثر من أربع ساعات، حينما تلقى أصدقاؤه في مكة نبأ وفاة فوزي في حادثٍ مروع حدث لسيارة الأجرة التي كانت تقله في الطريق بين مكة والرياض.
لم يحصل فوزي العراقي على الإقامة في هذه الدنيا الفانية، ولكنه حصل على الإقامة الحقيقية التي تبدأ بموت الإنسان، هناك حيث تصعد الروح المؤمنة المطمئنة إلى بارئها - سبحانه وتعالى - مات فوزي العراقي - يرحمه الله رحمةً واسعة - ترك الدنيا وما فيها.
سؤال يشتعل متوهجاً: إلى متى يظل هذا الظلم والإرهاب، والاستهانة بالدماء في عراقنا الحبيب؟ وإلى متى تظل هذه الصور الدامية في شامنا العزيز؟ ومتى تصحو ضمائر هؤلاء الذين يتاجرون بحقوق الناس ودمائهم وأعراضهم وأمنهم واستقرارهم؟ هل من جواب؟
إشارة:
فوزي العراقي - يرحمه الله - لوحة من لوحات الحزن في هذه المرحلة الدامية.