المتابع لكلمات وأحاديث الأمير سعود الفيصل يدرك مدى وعيه للوضع العربي الراهن، فقد قال في كلمة أخيرة له خلال أعمال الدورة المستأنفة لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية العرب أن القيادة السورية قررت المضي في قتل شعبها وتدمير بلادها من أجل الحفاظ على “ السلطة “، في هذه الكلمات الهامة يبرز مصطلح السلطة كأحد وجوه الأزمة الحالية في العالم العربي، وفيها دعوة لفتح الباب لمحاولة فهم أبعاد السلطة في العالم العربي، وبالتالي كشف الخيارات أمام السلطات العربية التي قررت المضي في مواجهة الفوضى، فإما ترك السلطة والتنازل من أجل نظام يصلح الوضع القائم، أو التمادي في القتل وتكون النتيجة مثلما حدث في ليبيا، لكن هناك خيار ثالث لدى السلطات المرشحة لدخول زمن الفوضى، وهل تدرك خطوات تجاوزها من خلال خيار إصلاح الوضع القائم، قبل أن تنطلق أول رصاصة في رأس أول مواطن يخرج للمطالبة بالإصلاح، وما تحدث عنه الخبير السعودي الكبير في السياسة لا يمكن أن يمر مرور الكرام، فقد كانت كلماته المحور الذي تدور حوله الأحوال العربية الراهنة.
لنتفق أن السلطة جزء من كيان الإنسان أياً كان، لكنها تبدو أكثر تضخماً في العالم العربي والإسلامي في الزمن المعاصر، وتصل إلى أكبر درجات تضخمها عند الفئات الحاكمة، والسبب غياب ممارسة الفصل بين السيادة والقانون، فالسيادة يجب أن تعني أولا الحفاظ على الوحدة الوطنية، على أن يكون القانون هو المنظم لعلاقات الحقوق بين فئات المجتمع، وأن تتخلى السلطة عن مهمة حماية الحقيقة المطلقة، والتي تختلف في العالم العربي من بلد إلى آخر، فتارة كانت في بعض البلاد البعث العربي أو الجماهيرية الشعبية أو الليبرالية والديمقراطية المزيفة، أو التاريخ أوالدين أو غيرها من الحقائق التي تُستخدم في الحفاظ على المصالح الفئوية، وقد تنجو السلطة الحكيمة من عدوى الربيع العربي من خلال إنتاج الحكمة الإنسانية المتزنة كما عبّر عنها سمو الأمير سعود الفيصل، وقد تكون طوق النجاة من التورط في جرائم ضد الإنسانية كما حدثت في سوريا وليبيا.
التحدي الأهم أمام استقرار الأوطان هوتحجيم السلطة بمختلف فئاتها ثم إعادة إنتاجها، ويأتي ذلك من خلال الانضباطية أمام سيادة القانون، وهوما قد يُهيئ في المستقبل إلى بروز مجتمع متطبع بثقافة القانون، على أن تتخلى السلطة بمختلف مصادرها عن قانون الاستثناءات، والتي أثبتت التجارب العربية أنه العامل الأهم في بدء حراك وهوس الجماهير في الخروج، وما حدث في مصر واليمن قد يعني أن تفكيكها ممكن، لكن ذلك قد لا يعني انتهاءها، فقد تعود من خلال سلطة أخرى ترفع حماية المقدس مالم تتخل الأحزاب الدينية عن مفهوم السلطة الموروث، وسيبقى التحدي أكبر في دول مجلس التعاون في المستقبل، بعد أن أصبحت كياناِ مؤثراً في الأحداث وأصحاب نظرية سياسية في الاستقرار السياسي، لكن الأمر بالتأكيد يحتاج إلى رؤية جديدة للحقيقة والسلطة، كتلك التي بدأت في التشكل في تونس.
في ذلك المسار برزت قبل قرون في عصر النهضة الإسلامي أزمة فكرية، وهي كيفية التوفيق بين السلفية والحداثة أو الأصالة والمعاصرة أو كما عبّر عنها الفيلسوف والفقيه المسلم ابن رشد حين وضع الشريعة والحكمة في نفس القدر من إنتاج الحقيقة، لكنه على نفس القدر حذر من تكرار الأخطاء في إدخال العوام في زوابع الكلام والجدل حول الحقيقة، وهو أحد أهم أسباب الزوبعة التي لا تتوقف عن التكرار في المحيط المحلي، وقد وجه ابن رشد نقداً حاداً للغزالي عندما أشرك العامة في هجومه على الفلسفة، فكان ذلك بمثابة الإعلان القادم عن فك الارتباط بين الحكمة والشريعة، ومن ثم دخول عصر القمع والجمود، وقد تطرق لاحقاً الفيلسوف الشهير ميشال فوكو إلى علاقة السلطة بالحقيقة، في ربطه بين السلطة والقانون والحقيقة، فالإنسان حسب رأيه ملزم بإنتاج الحكمة أو الحقيقة التي تقتضيها السلطة من أجل أن تتطور إلى مراحل أكثر استقراراً، علينا أن ننتج الحقيقة لكي نستطيع إنتاج الثروات أو الخبرات الإنسانية، وعدم الركون إلى آلية السلطة من أجل حماية الحقيقة كأيدولوجية صامتة وغير قابلة للتطور، وبالتالي تحويلها لتكون بمثابة السياط التي تستخدمها السلطة لقمع الجماهير ..
في نهاية هذه السطور نحتاج أكثر مما مضى إلى كثير من الحكمة الإنسانية في الزمن المعاصر من أجل تجاوز الهوس بالسلطة كما ظهرت في كامل قبحها في سوريا وليبيا، والتي كانت تقوم على ثوابت لا تقبل خيارات التحول والتطور، وتكون مهيأة دائماِ للدخول في قتال مع الناس في الشوارع من أجل استمرارها للأبد في كرسي السلطة المطلق، وإذا لم نع علاقة الحقيقة والحكمة كما فهمها ابن رشد منذ ثمانية قرون، سنستمر أسرى خلف قضبان الحقيقة الأحادية، وبالتالي ضحايا لاقتتال آخر على الساحة العربية.