يحكي يوسف إدريس قصة رجل متزوج حديثاً، يحمل قيماً ومبادئ سامية، لكنه يرى أنّ الناس ليسوا بالمستوى المطلوب كي يتفاعلوا مع ما يحمله من أفكار ثمينة عظيمة!.
قرر الرجل أن ينتظر الوقت المناسب حتى يصبح الناس مؤهّلين للتفاعل مع القيم التي يحملها، فنام على المرتبة الرائعة الجديدة التي اشتراها، ثم قال لزوجته:
انظري من النافذة هل تغيّرت الدنيا!؟. فردّت زوجته: لا، فقال لها: إذن لأنام يوماً آخر..!
وكلما استيقظ الرجل سألها نفس السؤال، وهي ترد عليه بنفس الإجابة، إلى أن مرّ زمن طويل، لم يتغيّر فيه أي شيء، اللهم إلاّ المرتبة الصلبة الجميلة المُريحة التي كان ينام عليها فقد تقوّست حتى ابتلعت جسده كله، وحينما مات الرجل ووضعوا الملاءة فوقه استوى سطح المرتبة بلا أي انبعاج، فلقد ابتلعته تماما!. لم تتغير الدنيا، الشيء الوحيد الذي تغيّر أنه قد اختفى في تجويف كريه، صنعه بتكاسله وسلبيته وانعدام بصيرته، بينما في الحياة تدور معركة الخير والشر بلا هوادة!
« منا كُثر يدمنون الشكوى والتذمُّر ومواجهة العالم بسيل من النقد والعدوانية، يُحملون البشر مسؤولية عدم جاهزية العالم للتفاعل مع قيمهم السامية، وأفكارهم العظيمة، ورؤيتهم الثاقبة المذهلة!. هؤلاء المساكين لا يدركون أنّ النصر لا يأتي إلاّ بعدما تكتحل العيون بغبار المعركة، وأنّ الغارقين في مستنقع الحياة سيحتاجون لمن يتعامل مع أوساخهم، وعيوبهم، وارتباكهم بحنو بالغ، بلا تكبر أو تذمر، أو نظرة دونية.. إنّ الأنبياء والمصلحين والعظماء احتكوا بالناس، تفاعلوا معهم، قاسموهم الهم، والألم، والعذاب.. لا أحد من أنبياء الله عيسى أو موسى أو يونس
أو نوح أو محمد عليهم جميعا سلام الله كان لهم قصر، أو حرس، أو حاجز يمنع بينهم وبين الناس.. على العكس من ذلك، تؤكد كُتب السير أنّ الواحد منهم كان يجلس بين الناس فلا يستطيع أحد أن يعرف من هو النبي من بينهم، وذلك لتواضعهم، واندماجهم الحي معهم، ومُقاسمتهم الحياة حلوها ومرّها.. هذا بالرغم من أنّ الله بعثهم جميعاً في لحظات مُظلمة في التاريخ الإنساني، فأناروا الدنيا بطيب خصالهم، وجميل أفعالهم، وحُسن أقوالهم، وكانوا مضرباً للأمثال في التحدي والصمود والاحتكاك بالبشر ومعايشتهم، والتفاعل معهم..
لقد كان النبي حاسماً وهو يؤكد لنا أنّ «من قال هلك الناس فهو أهلكهم»، نعم.. من وسم الناس بالسوء والهلاك لهو امرؤ يحتاج إلى مراجعة قناعاته، وإلاّ كان هلاكه أقرب ممن ذمهم..
نحتاج أن نفهم هذا جيداً، أن نُدرك أننا سنُشمّر الساعد، ونشد المئزر، ونهبط إلى الناس، وكلنا ثقة أنّ حاجتنا لهم لا تقل عن حاجتهم لنا، وأنّ استمرار الحياة يحتاج إلى مُصلحين متجرّدين لدعوتهم، وأتباع أوفياء جاهزين للتضحية دائما».