أذكر بحكاية قديمة قبل سنوات.. فقد جمعتني زيارة لمدير إحدى الجامعات الخليجية، وكان معنا بحكم البروتوكول عميد الكلية المعنية، وتجاذبنا الحديث في مجالات عدة.. وكان من بينها تنظيم ندوة دولية تدعى لها شخصيات خليجية وعربية ودولية..
.. وكنا - بحكم ما تعارفنا عليه من العمل البيروقراطي في جامعاتنا- نحاول أن نقنع مدير تلك الجامعة بتبني فكرة هذه الندوة، والبدء في الإجراءات النظامية لأخذ الموافقات.. وكنت أتكلم وزملائي معي في هذا الاتجاه ظناً منا أن مثل هذا الكلام سيزيد من قناعة مدير الجامعة، ونكون بهذا قد قدمنا خدمة لعميد تلك الكلية وهو زميل وصديق.. ولكن المفاجأة كانت حين قال لنا مدير الجامعة: إن هذا.. هو المسؤول عن إقرار الندوة التي تتكلمون عنها.. وكان يشير إلى اتجاه عميد الكلية.. ولكن كنا نتوقع أنه يؤشر إلى مكتب آخر خلف هذا العميد.. فقلنا هل تقصد أن هناك مندوباً من وزارة التعليم العالي لديكم في المكتب المجاور هو الذي يقرر الموافقة على تنظيم الندوات؟! فضحك.. وقال: إنني أؤشر على صديقكم عميد الكلية.. فهو الذي يوافق على تنظيم هذه الندوة، وهو يحيطني علماً فقط بأنه سيقوم بتنظيم هذه الندوة في وقت محدد.. فصعقنا نحن الوفد المكون من زملاء في عدد من جامعاتنا السعودية. ونحن نعلم أن مسيرة إقرار ندوة علمية في إحدى جامعاتنا تحتاج إلى شهور عدة..
هذه قصة قديمة.. أما القصة الجديدة فهي أن ثلاثة من السعوديين جاءوا لدولة خليجية لتنظيم مؤتمر في ذلك البلد وطلبوا من شخصية عامة الموافقة، فما قاله هو أنه كيف يمكن أن يرفض طلب ثلاثة من دولة خليجية يرغبون أن ينظموا هذا المؤتمر في بلدهم الثاني.. وأعطاهم الموافقة خلال ثلاثة أيام..
إذن سياحة المؤتمرات هي داعم اقتصادي كبير لاقتصاديات الدول، وهناك دول كثيرة تسعى إلى تحقيق مثل هذا التميز والريادة في سياحة المؤتمرات، ولهذا فقد فتحت كل الفرص وذللت كل العقبات من أجل أن يستقطبوا عقول العالم إلى تلك البلدان ويعرفونها بإنجازات وثقافة وتراث تلك الدول والمجتمعات، ولهذا فهم يرون أن صورة بلدانهم تتطور وتتحسن لدى العالم كلما زادت المؤتمرات والندوات والمعارض وغيرها من الأنشطة العلمية. وليس غريباً أن ترحب تلك الدولة وغيرها من الدول بأي مؤتمر يعقد في رحابها، أو استضافة أي منشط من المناشط العلمية والثقافية والإعلامية التي ستؤدي حتماً إلى إضافات نوعية على صورتها الدولية أمام العالم، لاسيما أن الأشخاص الذين يحضرون مثل هذه المناسبات هم نخبة دولية من أساتذة الجامعات أو رجال الأعمال بما يمثلونه من قيادة رأي عالمي مؤثر في بلدانهم..
وبالنسبة لزملائنا في الجامعات السعودية يدركون معاناة طلب الموافقة على تنظيم مثل هذه الندوات والمؤتمرات.. ولكن ربما لآخرين، يجب أن نثقفهم في بيروقراطية الجامعة السعودية.. فالبداية هي فكرة، تحتاج إلى أن تعرض على مجلس القسم.. ويقوم القسم بتحويلها إلى لجنة من الزملاء الذي يأخذون بعض الوقت في إقرارها، ثم تعرض على مجلس القسم، وبعد موافقته تتحول إلى مجلس الكلية.. وتندرج ضمن أجندة طويلة حتى يتم إقرارها، ثم تنتقل إلى إدارة الجامعة، ولكن بعض الجامعات تحيل الموضوع إلى لجنة خاصة بالمؤتمرات والندوات.. وهذه تأخذ وقتاً في الإجازة والتعديل والتغيير إلى أن يوافق عليها.. وربما يكون هناك مجلس علمي لإقرار هذه الندوة، ثم تنتقل إلى وزارة التعليم العالي، ثم تنتقل إلى المقام السامي.. وتدور هذه المعاملة في كل أرجاء الدولة.. شرقاً وغرباً.. شمالاً وجنوباً.. حتى تتم الموافقة عليها وتعود المعاملة مرة أخرى عبر كل القنوات الإدارية التي مرت بها.. وفي رأينا أن هذه المسألة تحتاج إلى نقاش مستفيض ومداولات صريحة وشفافة:
1 - استقطعت هذه المعاملة وقتاً ثميناً جداً من كثير من الشخصيات الرسمية التي مرت بها، وتنظيم ندوة عن (تفخيم الراء في اللغة العربية)، أو (تحقيق الوثائق في المكتبة العثمانية)، أو (تاريخ الإعلام المطبوع في منطقة القصيم)، أو (استخدامات الكمبيوتر لدى الأطفال)، أو (العقارات الجديدة لعلاج السكري)، أو (آثار قرية الفاو)، أو (تأثير السواك على فم الصائم).. الخ كل هذه الندوات وغيرها وأقل منها شأناً وأكبر منها شأنا يجب أن تمر عبر البوابات الحديدية لمختلف المجالس والإدارات والأجهزة وغيرها.. وكل هذه الأمور هي استنزاف مباشر لأعمال ولجان وإدارات وأوقات موظفين.. الخ.
2 - استطيع أن أقول: إن 99.9999% من هذه الحالات تأتي الموافقة عليها.. أي أن المقام السامي يقدر هذه النشاطات ويدعمها, ويدرك أن أفكار هذه الندوات والمؤتمرات قد خرجت من أساتذة مختصين، وأقسام علمية ذات مكانة ريادية، وأن مصلحة الوطن والمجتمع وتطوير الخبرة والمعرفة هي هاجس هذه الأقسام أو الجمعيات العلمية في بلادنا.. ولهذا فإن الموافقة تأتي على شكل إجراء روتيني.
3 - في ظني أن من ابتدع هذا الإجراء برفع إقرارات الندوات والمؤتمرات إلى المقام السامي، هو أحد طرفين: إمَّا من بيروقراطيين داخل الجامعات يعشقون الروتين والتعقيد ويرغبون في تحويل المسئولية على آخرين غيرهم.. وإما من موظفين عاديين أو مستشارين في إدارات تقر أو إدارات تمر من خلالها معاملات الإقرار.. وهدفهم ربما أن تكون لإداراتهم أهمية خاصة، وربما بعض هؤلاء لديه من الوقت الكثير لشغل نفسه بهذا الروتين الطويل.
4 - للأسف أن هذه الإجراءات لها سنوات وربما عقود من التطبيق، ولم يسع مديرو الجامعات إلى تبني جهود اختصار هذا الإجراء الروتيني.. لسبب بسيط، وهو أن فيه حماية لهم.. فلو سار وحدث أن تكلم شخص ما، (نكرة ما) في هذه الندوة أو المؤتمر وسألت جهة ما، فسيكون رده أن لدينا موافقة من جهة كذا.. أو كذا.. إذن ما تقوم به إدارات الجامعات هو عمليات وقائية ليس إلا..
5 - مما فاقم في هذه المسألة في إجراءات جديدة أضيفت إلى الإجراءات السابقة هو طلب أسماء المشاركين في هذه المؤتمرات والندوات قبل الرفع بها إلى خارج الجامعة، بمعني أن الجهة المنظمة للمؤتمر أو الندوة يجب أن تعلن مسبقا عن الندوة على مستوى العالم حتى يأتيها المشاركون وتشكل اللجان العلمية لتفرز البحوث وأوراق العمل وتختار الأنسب ثم ترفع بالأسماء للموافقة على الندوة مع الموافقة على الأسماء المشاركة.. ولو حدث “مكروه” مثلا بعدم الموافقة فستكون هذه طامة كبرى للجهة المنظمة للمؤتمر أو الندوة، فما تراها عساها تقول لعشرات المشاركين الذين يكونون قد حزموا حقائبهم وجمعوا أوراقهم متجهين إلى الرياض أو جدة أو أبها أو الدمام أو حائل أو غيرها من الجامعات السعودية.. وهذا الإجراء الجديد سبب إرباكاً كبيراً لدى الجامعات السعودية حيث بات اشتراط الموافقة المبدئية على المؤتمر مرتبطا برفع أسماء المشاركين فيه... ولكن الإجراء الجديد يشكل إحراجاً كبيراً على الجهة المنظمة للمؤتمر العلمي في حال الاعتذار وعدم الموافقة. وهذا قد يحدث عملياً.. أو أن تعرقل المدة الزمنية الطويلة توقيت الندوة وتأتي الموافقة متأخرة جدا على الجهة التنظيمية، فتضطر إلى تأخير المناسبة العلمية بعد جهد جهيد من التنظيم والترتيب لكافة حجوزات الطيران والفنادق ومكان المؤتمر واللجان وغيره ذلك من الترتيبات الهائلة..
إن مثل هذه الإجراءات سواء للموافقة على الندوات أو حتى حضور المؤتمرات لأعضاء هيئة التدريس أو غيرها من الأعمال التي تصب في العمل الأساسي للجامعات هي تشجيع ودعم لمركزية القرار الإداري، والمركزية هنا ليست على مستوى الجامعة، بل على مستوى الدولة.. وفي رأيي أن هذه المركزية هي استنزاف هائل للإدارات الاستشارية والوظيفية للمقام السامي.. وهو إنهاك يومي وعلى مدار أربع وعشرين ساعة لإنجاز هذا الكم الهائل من المعاملات التي تأتي من مختلف جامعاتنا، وأجهزتنا الحكومية والخاصة غيرها، وكان من الأولى أن تصرف هذه الجهود على أنواع أخرى من المعاملات التي تحتاج إلى تقصٍ ودراسة غير هذه الأعمال الروتينية.. وإذا لا بد من مثل هذه الإجراءات فيجب أن تتقلص إلى فترة قياسية من زمن الموافقة، فمثلا يجب أن يتم الرد خلال أسبوع واحد على الأكثر بعد رفعه للمقام السامي، لأن معرفتي أن وزارة التعليم العالي لا تتعدى فترة رفعها لأوراق من الجامعات بخصوص موافقات الندوات أو حضور المؤتمرات إلى المقام السامي أسبوعا أو ربما أقل من ذلك.. وما نحتاجه في وضع مثالي لحل هذه المشكلة هو (1) إعطاء الجامعات مرونة في اتخاذ قرار الموافقة على المؤتمرات العلمية، وإذا لم نتجه إلى هذا الخيار، فعلينا (2) اختصار إجراءات الموافقة من مختلف الجهات في الدولة إلى أسبوع واحد ليس أكثر من ذلك..
alkarni@ksu.edu.saرئيس الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية بجامعة الملك سعود