في يوم الأحد 2 سبتمبر سنة 1666م وبالتحديد في إحدى ليالي لندن أوى خباز بريطاني يُدعى “جوفينز” إلى فراشه ناسياً إطفاء شعلة صغيرة بقيت في فرنه, وأدى نسيانه لذلك إلى اشتعال منزله ثم منزل جيرانه ثم إلى الحارات المجاورة، حتى احترقت نصف المدينة ودمر 13200 منزل و87 كنيسة وتوفي الآلاف من سكانها.. حتى سُميت الحادثة بـ (حريق لندن الكبير).
والمفارقة العجيبة أنّ جوفينز نفسه لم يصب بأية أذى..!
يستفزّني سؤال مراوغ حين أقرأ مثل هذه الحوادث ألا وهو ماذا لو تنبّه جوفينز وعاد لإطفاء الشعلة..!
افتراض “ماذا لو” يستشري فيّ كألسنة النيران التي التهمت لندن في حريقها الكبير..
و لهذا أسأل نفسي ماذا لو أنّ الأمريكية السوداء (روزا باركس) نهضت من مقعدها في الحافلة حينما طلب الراكب الأبيض أن يجلس مكانها مستسلمة للاضطهاد العرقي والتفرقة العنصرية التي كانت تحدث آنذاك..!؟
هل كانت عملية إلغاء التمييز العنصري ستتأخر وتظل لفترة أطول أو حتى ستبقى دون إلغاء؟!
ماذا لو لم يخترع “جون هارينجتون” المرحاض المتدفق لملكة إنجلترا إليزابيث الأولى.. هل سنفتقد وجود البنايات الشاهقة وناطحات السحب لاستحالة تصريف مجاري مراحيض الدور الستين والأربعين؟!
ماذا لو لم يخترع العرب رقم صفر الذي اعتبره الرياضيون أعظم اختراع توصلت إليه البشرية بأكملها..
هل سنعيش في ظلام دامس لانعدام وجود الكهرباء, وسننجز أعمالنا ببطء وتعقيد لأنه يستحيل من دون الصفر ابتكار علوم الحاسب وأجهزته, وسيستصعب على علماء الجبر علومهم وحساب المثلثات, وعلى ممتهني الهندسة العمارة والبناء..!؟
ماذا لو كان (بو عزيزي) رابط الجأش وأخذ عربته مبتعداً بعد أن أمرته الشرطية بالانصراف هل لن نشهد ربيع العرب..!؟
ماذا لو لم يكن هناك احتلال عثماني متوسع هل ستبقى الحضارة العربية إلى اليوم محافظة على أوجها..؟!
ماذا لو لم يقرر ابن سيناء التوجُّه لدراسة الطب واكتفى فقط بالفلسفة هل سيتطلّب من الأطباء أن يبذلوا جهداً أكبر لعمل ما قام به افتراضًا ابن سينا..؟!
ماذا لو لم يثُر الشعب الفرنسي عام 1789 وبقي على حاله مستسلمًا خانعًا.. هل كانت ستظل فرنسا تحت مظلة الملكية ولم يبرز اسم نابليون بونابرت كإمبراطور وبقي الدين متصلاً بالدولة..!؟
هل كل ما حدث ويحدث وسيحدث منتظم في مسار محدد مسبقاً, وكل شيء بقدر.. وما كان سيشعل فتيل الثورات العربية شيئاً واحداً ولكن قد اختلف المسبب ألا وهو بائع الخضار المقهور..!
يذكر الكاتب الإنجليزي وليام سومرست موم القدر بقصة عربية تقول:
يتحدث الموت: كان هناك تاجر في بغداد أرسل خادمة إلى السوق لشراء بعض المؤن, وبعد مرور بعض الوقت عاد الخادم وهو يرتجف مذعورًا, وقال: يا سيدي عندما كنت في السوق كانت تزاحمني امرأة في وسط الحشد وحينما التفت إليها رأيت أنّ الموت هو من كان يزاحمني. والآن ناولني حصانك أرجوك سأهرب بعيداً إلى سامراء وأتجنب قدري وهناك لن يجدني الموت.. بعدما رحل خادمه ممتطيًا الجواد قام التاجر بالذهاب إلى السوق ورآني واقفًا في مكان مزدحم, فجاء إليّ وقال: لماذا نظرت هذه النظرة المخيفة إلى خادمي عندما رأيته؟، فقلت “هذه لم تكن نظرات تهديد ولكنني تفاجأت لمقابلته في بغداد بينما كان لي موعد معه الليلة في سامراء”.
ولكن لو تملّكتنا إرادة قوية هل يستجيب لنا القدر كما قال أبو القاسم الشابي في بيته الشهير الذي كان عنوان الثورة التونسية:
(إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر)
مع التحفُّظ على الشطر الثاني من البيت..!
الأجوبة على هذه الأسئلة مرهقة وقد تكون مستحيلة, و(لو) حذّرنا منها رسول الله محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم في الحديث النبوي الشريف القائل: (وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا, ولكن قل: قدّر الله، وما شاء فعل; فإن لو تفتح عمل الشيطان).
و لكن أود تذكيرك وتذكير نفسي قبل ذلك بأنّ الكثير من القرارات شكّلت ولاشك مصير أمم وغيّرت خرائط العالم وخلقت من اللاشيء أشياء.. قرارات وأحداث توّجت البعض في منصة التاريخ والبعض الآخر قذفت بهم إلى مزبلته..
فكن جريئًا وتحلّ برؤية بعيدة المدى.. آمن بنفسك وبقدراتك على تشكيل فرق, فلا ضير أن تسير بخطوات واثقة وثابتة في حين العالم يهتز من حولك..!
وأنصحك بالامتثال لنصيحة دايل كارنيجي التي تقول: عندما يعطيك القدر ليمونة قم بعمل عصير ليمون.!
ذهب السنابل: حينما ينتهي قدري يمكن لنفحة ريح أو قشة أن تكسرني.. “نابليون بونابرت:”
Lec.22@windowslive.com