كان مما أشير إليه في مقالتي، التي نُشِرت في الأسبوع الماضي بعنوان: “التأمرك في مهبط الوحي ومهد العربية”، أنّ هناك مسارعة إلى التأمرك، ووضوحاً على أنه قد أصبح ينظر إلى لغتنا العربية في مهدها نظرة دونية. لقد كان من نتائج التقاء الحضارتين
الغربية المتقدمة؛ علمياً وتقنياً، والعربية المتخلِّفة في هذين المجالين على أرض جزيرتنا - لا سيما بعد اكتشاف النفط في شرقيها - انبهار لدى كثير من سكان هذه الجزيرة. ومما أسفر عنه ذلك الانبهار تقليد لدى قلَّة منهم لذلك المتقدِّم الوافد في بعض تَصرُّفاته غير المُتَّفقة مع ثقافة المحلِّيين؛ عادات، وإعجاب عظيم بلغته. ومن علامات ذلك الإعجاب أنه قد أصبح يقال لمن تمكَّن من معرفة كلمات وجمل بالإنجليزية مهما كانت قليلة: “ فلان يتكلم بسبعة ألسن”. ومع مرور الوقت نشأ الإعجاب باللغة الأجنبية على حساب اللغة الأم .. اللغة العربية. وما زال صدى حفل أقيم في مدرسة ثانوية في الرياض يَرنُّ في أذني حتى الآن. كان على رأس من حضروا ذلك الحفل مسؤول كبير. وكان مُقدِّم الحفل يُقدِّمه بإلقاء رائع ولغة عربية جميلة. لكن لم يبدر من الحاضرين أَيُّ دليل على تشجيع له أو إعجاب باللغة التي كان بارعاً فيها. وعندما ألقى طالب بضعة سطور بالإنجليزية - والله أعلم كم بُذِل من جهد لتحفيظه إيَّاها - ضجّ أولئك الحاضرون بتصفيق دال على الإعجاب الشديد. وما دام الإعجاب بلغة الأجنبي المُتقدِّم؛ علمياً وتقنياً، قد برهنت المسيرة على تحقُّقه فإنه لم يَعُد مستغرباً أن ينتقل الإعجاب بلغته إلى إعجاب البعض بأفكاره؛ حضارياً وثقافياً. ولقد أشرت إلى ذلك الأمر في قصيدة بغير اللغة العربية الفصحى قائلاً:
من يلوم الحليم إلى تَعكَّر مزاجه
دام جَوّ المَعَرْفه غاديٍ شُقْلباني
من حفظ كلمتين من كتابة خواجه
قال: أنا العالم الِّلي وَخّروا عن مكاني
ما تعرفونني يا راكبين الحداجه
ما لكم يا بدو وافكار هذا الزمانِ
عالم الفكر ليلٍ والحداثـه سراجه
من تبعها لفى المارد بامان وضمانِ
ذاك قوله ويلقى من يسهِّل رواجه
بعض الأجواد فيها للغريب جْنحانِ
وكان مما أشير إليه في مقالتي، الأسبوع الماضي، أنّ وزراء الصحة العرب سبق أن قَرَّروا، عام 1981م، أن تكون اللغة العربية - في غضون عشرين عاماً - هي لغة التدريس لجميع المواد الصحية وفي كل المراحل الدراسية. ما الذي حدث بعد ثلاثين عاماً من صدور قرار أولئك الوزراء؟ لقد غُيِّرت لغة التدريس في الجامعة الوطنية الأم في بلد من بلدان دول مجلس التعاون من اللغة العربية إلى الإنجليزية؛ وذلك في جميع أقسام تلك الجامعة باستثناء مسارين من مسارات قسم اللغة العربية. وسُمِح في بلد من بلدان هذا المجلس بأن تكون لغة التدريس في التعليم العام؛ ابتداءً من السنة الأولى الابتدائية، في المدارس غير الحكومية لغة أجنبية وإن كان تلاميذها، أو تلميذاتها، مواطنين عرباً. قد يقول قائل: إنّ حكومات دول مجلس التعاون لديها كليات وأقسام ومعاهد لدراسة اللغة العربية وتدريسها؛ بل إنّ لديها، أيضاً، معاهد لتعليم العربية لغير الناطقين بها، وإنّ منها ما يفتح معاهد خارج بلدانها لتعليم العربية. وهذا أمر صحيح ومُقدَّر كل التقدير. غير أنّ من المسؤولين في بلداننا ما تكاد مواقفهم ينطبق عليها وصف من وُصِف من الشعراء بأنهم يقولون ما لا يفعلون. ذلك أنّ الخطوات المُتَخذة فعلاً تتناقض مع أقوالهم المعلنة.
وقد يقول قائل: لماذا جاء الحديث عن الأمركة والتأمرك على وجه الخصوص بدلاً من التغريب والتغرُّب؟ وفي رأيي أنّ أمريكا قد أصبحت ذات المكانة الأولى في العالم عموماً وفي الغرب خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. فبريطانيا، التي لم تكن الشمس تغيب عن ممتلكاتها - كما كان يقال - أصبحت بعد تلك الحرب تابعة لها بدرجة واضحة. وتلك التبعية - مهما بدت درجتها - هي التي جعلت الرئيس الفرنسي ديجول يعارض بعناد شديد دخولها السوق الأوروبية المشتركة. ومسارعتها إلى مشاركة الإدارة الأمريكية المتصهينة في العدوان على أفغانستان ثم العراق، دليل من أدلَّة تلك التبعية.
أما وضوح هيمنة أمريكا على كثير من مجريات الأحداث في العالم فمن أدلَّته تسييرها مجلس الأمن وفق إرادتها، التي لا تخرج عن إرادة الكيان الصهيوني. وكان ممن عَبَّر عن هذه الحقيقة تعبيراً واضحاً الشاعر علي القري، رحمه الله؛ واصفاً قوّتها ونفوذها بقوله:
حيث أنها دولة لَهْ ظفـر ومخلب وناب
في مجلس الأمن مَندوبَـهْ يشـقَّ ويخيطْ
وكنت قد قلت عن ذلك:
تملك الدنيا وتحكمها
بعصا الإذلال والدَّخَنِ
دولة من كيدها مُلئت
جنبات الأرض بالمحنِ
مجلس الأمن الذي زعموا
حيثما شاءت له يكنِ
وكان من آخر ما اتخذته في ذلك المجلس - ولن يكون الموقف الأخير - من وقوف مع الكيان الصهيوني ضد أُمَّتنا؛ وبخاصة في فلسطين، معارضتها لإرسال مُحقِّقين عن عدوان الصهاينة في مستعمرات الضفة الغربية على أصحاب الأرض الفلسطينية وتهويدهم لتلك الأرض بمختلف الصور.
أمركة منطقتنا العربية بالذات؛ وجوداً عسكرياً، واضحة لكل مُتأمِّل في واقعنا. أما الجانب الثقافي فربما كان التأمرك فيه أكثر وضوحاً من الأمركة. كان المستعمر لبلداننا العربية هو الذي يفرض لغته في هذه البلدان. ولما زال الاستعمار - وإن شكلياً - أصبح من المسؤولين في التعليم - وهو أهم وجوه الثقافة - من هم يَتشبَّثون بلغة الأجنبي على حساب لغتهم الأم. بل وصل ذلك التشبُّث إلى درجة أنّ جامعة في مهبط الوحي ومهد العربية تشترط في قبول الطلاب للالتحاق بالدراسات العليا - وإن كان الطالب سيحقِّق مخطوطة عن النحو العربي - أن ينجح فيما يُسمَّى التوفل بالإنجليزية. وموقفهم هذا يجسِّد مقولة مالك بن نبي، رحمه الله: “القابلية للاستعمار”. الفرق بين دول برهن المسؤولون فيها على عظمتها ودول برهن المسؤولون فيها على بعدهم على العظمة واضح في موقف كُلٍّ من اليابان وكوريا من جهة ودول عربية في كُلٍّ من المشرق العربي والمغرب العربي. في كُلٍّ من اليابان وكوريا تَعلَّمت طلائع من أهلها في الغرب، ثم عادت حاملة نتاج معرفتها لتضعه أمام أولئك الأهل بلغتهم، وأصبحت جميع المواد المعرفية تدرس في كل المراحل الدراسية بتلك اللغة، ولم يحل ذلك دون أن تصبح الأُمَّتان عظيمتين؛ تَقدُّماً علمياً وتقنياً. وكان المؤمل أن تبرهن الطلائع من أُمَّتنا التي تعلَّمت في الغرب، على مثل العظمة التي اتَّصفت بها طلائع اليابانيين والكوريين، فتضع أمام شعوبها العربية نتائج معرفتها بلغة عربية سبق أن أثبتت جدارتها ومقدرتها على صهر المعرفة من الحضارات العريقة المختلفة في بوتقة قُدِّمت للإنسانية يانعة شهية.