الربيع العربي فرض حتمية السكان (الديمغرافيا) في قلب الموازين.. كان في السابق عامل المكان (الطبوغرافيا) هو العامل الحاسم في الصراعات السياسية من خلال الاحتماء بالمحيطات والبحار، لذا بقيت أمريكا شمالها وجنوبيها معزولة عن العالم حتى تم اكتشافها وتطور الملاحة البحرية وتقنية الطيران لتصبح جزءا هاما من العالم وقبل ذلك كانت معزولة وراء بحر الظلمات المحيط الأطلسي.. وبقيت بلاد المغول في التاريخ القديم أرضا معزولة عن العالم حتى تفجرت سكانيا واجتاحت العالم القديم وأرسلت الغزاة والهجرات من أقصى شرق أسيا إلى أقصى غرب أسيا حتى اندمجت مع حضارات الشرق الأدنى القديم وأصبحت بعضا من شعوبها مسلمة, وقبل ذلك كانت شعوبها في عزلة خلف بلاد ما وراء النهرين وبلاد الجبال إيران والباكستان وأفغانستان...
الربيع العربي افرز عامل السكان في تحريك الحدث السياسي فحركة الشعوب لا تمنعها الفواصل الطبيعية والحدود السياسية وأن الشعوب هي المحرك للتغيير, أياً كان نوع التغيير: سياسياً أو اجتماعيا أو ثقافيا والذي تطلق عليه المراجع التاريخية (السواد الأعظم)، فعندما خرج التونسيون في الشوارع وقرروا التظاهر لم يملك الرئيس السابق زين العابدين بن علي حلا سوى الهروب بالطائرة دون أن يحدد وجهته... وعندما اعتصم الناس في ميدان التحرير بالقاهرة لم يجد حسني مبارك أمامه من خيار سوى ترك السلطة لأهل مصر والاحتماء بالعسكر... وكذلك الحال معمر القذافي الذي وصف شعبه بالجرذان والمهلوسين، قاتل وأشعل البلاد حتى وجد في أنابيب المجاري ليحتمي من الشعب الغاضب... وفي اليمن الذي كان فيه الرئيس علي عبد الله صالح يتهكم من (جمعات) الاعتصام : جمعة الصمود, وجمعة ارحل , وجمعة الموت. وجد نفسه محاصرا من الناس في صنعاء وتعز والحديدة وعدن تطالبه الرحيل لذا تخلى عن السلطة بالقوة لا طواعية.. أما بشار الأسد الذي كان يقول ان دمشق تعطى الشعوب العربية الدروس في الانضباط والأمن وحرب الثورة، وجد بشار أن الشام كلها تتحرك وتموج من حوله بالاحتجاجات والأناشيد والزغاريد والتهليل والدعاء تواجهه بصدور عارية وتطلب منه في هذه المرحلة الرحيل مع عصابته وزمرته.
حركة الشعوب هي المؤثر في التغيير وهذه العدوى العربية مرشحة أن تنتقل إلى شعوب وقارات وديار بعيدة في أوروبا واسيا وأمريكا وإفريقيا ومن يغالط نفسه سيكون ضحية الديمغرافيا, فهل تعيد السياسات الدولية حساباتها مع شعوبها والشعوب التي تحكمها في الظل أو عن بعد خاصة الغرب الذي يدعى انه الأب الشرعي للربيع العربي, فالذي حدث قبل عام 1945م نهاية الحرب العالمية الثانية وفترة الاستعمار البغيض لن يتكرر, كما يدعي بعض المحللين السياسيين الغربيين بأن هناك عودة لزمن الاستعمار تحت مظلة الربيع العربي.
حركة الشعوب أو القوى الديمغرافية الضاغطة هي من سيغير من الموازين ليس في الشرق العربي وإنما بغرب البحر المتوسط.