وعدنا في نهاية الجزء الأول من هذا المقال أن نطرح بعض الأسئلة في استهلال هذا الجزء الثاني فأترككم معها:
- لماذا تقدم الدنيا على الآخرة في كثير من الخطابات الإسلامية.
- لماذا كل هذا التهافت على الشهرة والدعاية للنفس من بعض البارزين في هذه الحركات.
- لماذا كل هذا التراخي والمطالبة بالانفتاح على الآخر ومحاولة فهمه واحتضانه.
- لماذا كل هذا الإعراض عن النصوص الشرعية أو عدم تحكيمها وتحويلها إلى مجرد حكم وأمثال تتلى على المسامع ولا يلزم بها أحد.
- وفي المقابل النفخ المتواصل في بوق فقه المقاصد ليتحول العبد إلى إله مشرع تحت هذه اللوحة (فقه المقاصد؟!).
- لماذا كل هذا التأثر البالغ بالواقع وجعله الميزان العدل في الحكم على الحياة والأحياء.
أسئلة جديرة بالتأمل وستكافح بطبيعة الحال بالأسئلة المضادة بمعنى قلب كل سؤال على السائل باستخدام النقض لندور في حلقة مفرغة يطلق عليها سجال التقليديين والتجديديين، وعند الله تجتمع الخصوم وكفروا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا وفرحوا بما عندهم من العلم.
يقول مونتين (وكل ما أقوله هنا هو من قبيل النقاش لا النصح وما كنت لأتكلم بهذه الجرأة لو كنت متـأكداً أن كلامي سيؤخذ على علاته).
ولسائل أن يسأل: من أين جاء هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ ولماذا كل هذه الاستماتة للدفاع عن جماعتهم والفداء لها؟
الجواب بكل بساطة، أنه ليس كل من التف حول قائد وأعلن انتماءه الحزبي لهذه الحركة أو تلك أنه بذلك ينشد الرفاه والعيش الرضي، أو أنه يسعى للحرية أو غير ذلك من الطلبات المترفة، بل قد يكون فارغاً أو يعاني من آلام المفاصل أو أنه مصاب بالقولون العصبي؛ فهو يائس كئيب يبحث عن خشبة نجاة يبحث عن إله يجثو بين يديه باكياً منتحباً؛ إنه يريد أن يتعسكر ويذوب في الجماعة كي يتمتع بالتخدير الجماعي والتضليل المنظم.
إنه يريد الفرار من التبعة والمسؤولية الشخصية، فما هو إلا عود من حزمة، والمتحدث الرسمي باسم الجماعة يتكفل بالتبرير، والقائد يتكفل بالتنظير وما عليَّ إلا أن أسمع وأطيع بلا سؤال ولا شك.
دائماً وأبداً تسعى الروح الجماعية للحركة أن تشل التميز الفردي وديناميكيته، بل وتلغي شروطه وافتراضاته. كتب شاب نازي قبل الحرب العالمية الثانية رسالة يقول فيها (نحن الألمان سعداء جداً نحن أحرار من الحرية).
إنه بحاجة إلى من يشعره بالقشعريرة ويلهب جوانحه بالخطب وبحاجة إلى من يسلب لبه ويحرك مشاعره بالشعارات الكبرى والطموحات الكبرى والمظلوميات الكبرى إنه يحب هذا النمط، ولا يحب الكلمة المنطقية المحددة المتزنة إنه يكرهها ويفر منها وتثير لديه الاشمئزاز.
وهنا بودي أن أشير إلى أن هناك من كبار السياسيين من حاول ضرب الحركات بعضها ببعض وهذا تهور ولا أدري؛ لماذا يتكرر ذلك من هؤلاء مع علمهم بخطورته وضراوته؛ قام بذلك السادات في السبعينيات وكذلك فعل بعض رجال الأعمال في ايطاليا وألمانيا ما قبل الحرب العالمية الثانية داعمين للفاشية والنازية في مقابل الشيوعية فانقلب السحر على الساحر.
وكأنني أراه لقد كان مستقلاً مميزاً بل وعنده روح الإبداع، كل هذا قبل أن ينتظم في سلك الحركة والتنظيم إن التنظيم يدخل في كل ذرة من ذرات وجود الأخ ليحوله إلى نغمة في جوقة الحزب لا يستطيع أن يفكر الأخ خارج الوحدة العقلية للجماعة، ولا أن يبدع خارج القانون الجماعي، إن التحزب يقتل الإبداع.
يخلق التجمع تحت سقف حركي واحد خصائص نفسية واحدة ومستويات افتراضية واحدة، كما هو الحال للفصائل النباتية المتعددة؛ فكل فصيلة لها مواصفات وخصائص تختلف عن الأخرى، وإن كان هناك نوع تشابه والتقاء في بعض الميزات، إن الكائن الحزبي كائن مطيع وخاضع ومنتظر للتوجيهات والأوامر العليا من القيادة إنه ضد التفكير وضد الحضارة وضد التاريخ.
كيف يكون هذا لما خلق الله الإنسان خلقه حراً من كل علائق الأرض واستعمره فيها ليعمرها بالتوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وأمره أن يمتطي الدنيا بأسرها كدابة تبلغه المقصود الأعظم وهو رضى الله. وهكذا سرت هذا الدعوة في جزيرة العرب فخرج منها رجال كالمصاحف تدب على وجه الأرض لتنشر النور والهدى في العالمين على وفق مراد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وكانوا هم الجماعة فما تأتي لتضع جماعات داخل الجماعة، فأنت بذلك تنشر الفرقة وليس لك إلا أن تردد أن الخلاف رحمة، وهذا غير صحيح.
الخلاف ليس رحمة بل سعة والفرق ظاهر بين المعنيين، وعلى كل حال، اضطر المسلمون في بعض البلدان العربية عقيب رحيل المستعمر إلى إنشاء جماعات حفظ الله بها الدين وأدت دوراً مهماً لسنا نحن الذين سنذكره أو نشكره، ولكن المراد الجماعة التي تحزب نفسها بلا حاجة والتي توسع دوائر حصرها الشرع وتضيق أخرى وقد وسعها الشرع، وكل جماعة وكل زمن وكل مكان له حكمه الخاص وعليه فلنعود لحكمنا العام:
عندما أقول ضد التفكير فلما مر من أن الإنسان المنخرط في جماعة فأنه عليه وقبل كل شيء أن يضع عقله إلى جوار نعليه قبل أن يلج إلى حرم الجماعة وضد الحضارة؛ لأن المنجز البشري والذي أفاد الناس هو الذي أنجزه البشر المتقدمون في سلم الحضارة بكل هدوء وإتقان وحكمة وتتبع للسنن والنواميس التي تحكم هذا الكون الفسيح. إنها تصدر عن الإنسان الذي يتعامل مع الحياة بدون أزمة ولا احتقان ولا تعجل المحكوم بظرف، بينما الجماعة في صراخها وحماسها وهتافها تجرى بكل اندفاع نحو الهوة إلا أن تسجل مراجعات مبكرة فتظل إما معارضة رزينة غير ذات جدوى وإما حزب حاكم ينقلب إلى دكتاتور متوحش، ولا بد وضد التاريخ لأن التاريخ ليس سلسلة من الأحداث من صعود وهبوط، بل هو أطوار لا يبحثها ويدرسها ويسهم في صناعتها سوى الكبار والعباقرة والأمم التي تضيف للتاريخ ولا تكون مضافة إليه.
t-alsh3@hotmail.com