الدنيا لا تدوم على حال، والله وحده الذي يعلم المآل، ولا يمكن لأي فرد أو مجتمع أن يكون في مأمن من غوائلها، ولا يكون في منأى عن عواقبها، وهي دائمة التلون، وكثيرة التحول، ومع هذا فلا بد للمرء أن يعايشها، ويسايرها، يميل معها إذا مالت، وإلاّ فقد يصطدم بأحد جوانبها، فيكون فيها حتفه.
والتاريخ يقول لنا إن الليالي من الزمان حبالي، مثقلات يلدن كل عجيبة، ومن تلك العجائب أولئك الآمنين في منازلهم، الساعين لكسب رزقهم، ثم لا يلبثون بين عشية وضحاها، إلا ويرون أنفسهم يبحثون عن ملاذ يأويهم، وكسر من الخبز تسد رمقهم، وقليل من الماء يروي عطشهم، وهم أجهل الناس بالغايات والنوايا، وأبعدهم عن معرفة الحقائق عند البرايا، وأكثر حملاً للرزايا.
هي إن حلت بيسرها أو عسرها، لا تفرق بين عالم وجاهل، ولا شريف قوم ولا هامل، وهي رافعة أشرعتها، باسمة الثغر، منشرحة الصدر، إن هي أقبلت، ومكشرة عن نابها إن هي أدبرت.
ألهمتني هذه الخاطرة، تلك القصة المشهورة للمعتمد بن عباد الأندلسي، الذي كان لديه ثمانمائة جارية أو أكثر، ومجلسه يحفل بأعظم شعراء عصره، ويعيش في نعيم ما بعده نعيم، وهو الشاعر الأديب والحاكم، ويكفيه أنه قد عاش في فترة من عمره مع ذي الوزارتين أبي الوليد بن زيدون.
وينقل لنا المؤرخون أن المعتمد ركب البحر مع وزيره ابن عمار، وقد ارتفع الموج، فقال المعتمد لابن عمار:
صَنَعَ الريحُ من الماء زَرَد
فأطال ابن عمار الفكرة، فقالت إحدى الجواري واسمها اعتماد وهي جالسة مع صُوَيْحِباتها الغسالات تغسل ما تحت يدها:
أيُّ دِرْعٍ لقتالٍ لَوْ جَمَد
فتعجب المعتمد من حسن ما أتت به مع عجز ابن عمّار، ونظر إليها فإذا هي حسنة الصورة فأعجبته، فسألها: أذات زوج أنت؟ فقالت: لا، فتزوجها وولدت له أولاده المشهورين.
وكان المعتمد كثيراً ما يأنس بها، ويستظرف نوادرها، ولم تكن لها معرفة بالغناء، وإنما كانت مليحة الوجه، حسنة الحديث، حلوة النادرة، كثيرة الفاكهة، لها في كل ذلك نوادر محكية.
قال المقرِّي: ومن أخبار الرميكية القصة المشهورة في قولها (ولا يوم الطين) وذلك أنها رأت الناس يمشون في الطين، فاشتهت المشي في الطين، فأمر المعتمد، فسُحِقَت أشياء من الطيب، وذُرَّت في ساحة القصر حتى عمته، ثم نصبت الغرابيل، وصُبَّ فيها ماء الورد على أخلاط الطيب، وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين وخاضتها مع جواريها. وغاضبها في بعض الأيام، فأقسمت أنها لم تَرَ منه خيراً قط، فقال: ولا يوم الطين؟ فاستحيت واعتذرت. وقيل عنها أنها هي التي ورطت المعتمد في ورطته من الخلاعة والاستهتار والمجاهرة، فقد زينت له بتعطيل صلوات الجُمّع عقوداً حتى كتب أهل إشبيلية إلى يوسف بن تاشفين، فكان من أمره ما كان، وسجن المعتمد في أغمات وسجنت الرميكية معه فماتت هناك قبله.
ودخل يوسف بن تاشفين الأندلس في قصة مشهورة، وأخذ المعتمد أسيراً مع زوجته اعتماد الرميكية وأولاده، وعندما وصل المعتمد إلى أغمات ورأت زوجته الرميكية السجن وأهواله، ارتاعت لهول ما رأت، وقالت: “يا سيدي، لقد هُنَّا هُنا”.
فقال المعتمد بيتين ليسجل لنا ذلك الموقف:
قالت: لقد هُنَّـا هُنامـولاي، أين جـاهُنا
قلت لها: “إلى هُنــا سيّــَرنا إلـهُـــنا
وبقي في السجن زمناً، قال الفتح: “وأول عيد أخذه -المعتمد- بأغمات وهو سارح، وما غير الشجون له مبارح، ولا زِيَّ إلى حالة الخمول، واستحالة المأمول، فدخل عليه من بنيه من يسلم عليه ويهينه، وفيهم بناته وعليهن أطمار، كأنها كسوف وهنَّ أقمار، يبكين عند التساؤل، ويبدين الخشوع بعد التحايل والضياع قد غير صورهن، وحيرَّ نظرهنَّ، وأقدامهن حافية، وأثار نعيمهنَّ خافية، فقال:
فيما مضى كنت في الأعياد مسروراً
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة
أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
ويقول المقرئ إنه رأى حفيده يشتغل عاملاً في نفخ الكير أجارنا الله وإياكم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
هكذا كانت حال المعتمد ومآله، ولله في خلقه شؤون، ولم يكن المعتمد وحيد زمانه فيما أصابه، فأمثاله كثير في وقت مضى والوقت الحاضر حافل بمن يضاهيه، والله المستعان.