|
الجزيرة- د. حسن الشقطي:
أشرنا في تقرير الأسبوع الماضي إلى وجود قوى قاهرة وظروف طارئة قد تتسبب في وضع مؤلم للقطاع الخاص (وخاصة المقاولين) سواء عند تعاقدهم مع الحكومة أو جهات خاصة أخرى ..وأثرنا تساؤلا رئيسيا، هو: هل الأنظمة القانونية المعمول بها في تنفيذ وتنظيم العقود كفيلة بحماية المتعاقدين ضد هذه القوى القاهرة والظروف ؟ واستعرضنا في الحلقة الماضية بعض الثغرات أو النصوص التي لم تأخذ في اعتبارها حدوث مثل هذه الظروف الاستثنائية، ونستكمل فيما يلي تلك النصوص التي يثار حولها كثير من الجدل في حياديتها في تقديم التعويض أو المساعدة العادلة للقطاع الخاص حال حدوث هذه الظروف الاستثنائية.
النظام وآلية تسوية المنازعات
على الرغم من أهمية هذا النظام، إلا أنه لم يقدم آلية سريعة لتسوية المنازعات الناشئة عنها، إذ إنه من ناحية التطبيق العملي يجب أن تمر الدعاوى بالمراحل التالية :
أولا : أن تقديم شكوى إلى الجهة الحكومية، وإن لم تحل الشكوى خلال 3 أشهر يتم الشكوى إلى اللجنة المشكلة (الجديدة) طبقا لمواد القانون (المادة 78)، وإن لم تحل خلال 3 أشهر يتم اللجوء إلى ديوان المظالم.
ثانيا : يتم اللجوء إلى ديوان المظالم برفع دعوى إدارية لطلب تنفيذ أحد الالتزامات التي تقع على عاتق الجهة المتعاقد معها، وهذا يستغرق عادة سنوات عديدة حتى يتم البت في الدفوع الشكلية وأوجه الدفاع الموضوعية التي يتقدم بها كل طرف ضد الآخر، وتتم الاستعانة بمكاتب خبرة معتمدة، وتقدم تقارير، وقد يحدث تضارب في التقارير، وهكذا يطول أمد النزاع. ونتيجة ذلك، فإن الحكم القضائي الصادر عن ديوان المظالم والذي يحصل عليه الطرف المتعاقد مع جهة الإدارة يفقد قيمته الحقيقية من الناحية الاقتصادية، نظراً لارتفاع الأسعار وانخفاض القيمة الحقيقية للنقود .. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن مدى إمكانية اللجوء إلى وسيلة أخرى مثل التحكيم لتسوية هذه المنازعات ؟
تأخر صرف التعويض لحين تسليم المشروع على الرغم من أن النظام الجديد يفرق بين أمرين:
أولهما : الرسوم المحددة من الدولة، حيث يعوض المقاول إذا ارتفعت ويحسم عليه الفرق في حال انخفضت. وثانيهما : ما يتعلق بمواد البناء وتكاليف الإنشاءات من الأيدي العاملة والشحن إلى غير ذلك، وهنا نص النظام الجديد على تشكيل لجنة في وزارة المالية للنظر في طلبات التعويض من المقاولين في حال ارتفعت الأسعار». ومن ثم فإن الإشكالية تتمثل في أن اللجنة لا تنظر في تظلم المقاول إلا بعد أن ينتهي من المشروع ويتم تسليمه، وهذا غير عملي وغير ملائم لأن ما يحدث حاليا أن المقاول أثناء التنفيذ ترتفع عليه أسعار المواد بصورة خيالية، مما يضطره إلى إيقاف العمل في كثير من الأحيان.
مبدأ الأخذ بالعطاء الأقل سعراً
وضع النظام معياراً وحيداً لاختيار العطاء الفائز وهو: إرساء المناقصة على العطاء الذي قدم أقل سعر إجمالي، بشرط أن يكون موافقا للشروط والمواصفات الفنية المطلوبة. فلو كان هناك عطاء يقدم أصنافا أو خدمات أو أعمالا بجودة فنية عالية، ولكن بسعر إجمالي أعلى من عطاء آخر بجودة أقل، ترسو المناقصة على هذا العطاء، طالما كانت هذه الجودة مطابقة للشروط والمواصفات المطلوبة. ولكن استثناء مما سبق أجاز المشرع للجنة المناقصات عدم ترسية المناقصة على العطاء ذي السعر الإجمالي الأقل، إذا كان هذا السعر منخفضاً بصورة غير مقبولة، ولا تدعو إلى الاطمئنان إلى شراء الأصناف أو تنفيذ الأعمال أو أداء الخدمات على الوجه المطلوب .. كما أجاز القانون أيضاً للجنة المناقصات تفضيل مناقص قدم سعراً أعلى من سعر اقل العطاءات إذا كان هناك ما يدعو إلى ذلك. ولكن في هذه الحالة يجب أن ترفع الأمر إلى وزير المالية ليصدر قراره فيه. ولما كان معيار اختيار المناقص الفائز يعتمد على إجمالي السعر الأقل المقدم، فقد افترض المشرع أن يكون هناك عطاءان أو أكثر تتساوى فيهما الأسعار ويكونان الأقل من ضمن العطاءات المقدمة .. ففي هذه الحالة إذا كان الأمر يتعلق بمناقصات توريد الأصناف وكان تجزئة المناقصة لا تخل بالمواصفات والمواعيد المحددة جاز للجنة تجزئة المناقصة بينهما. ولم يتطرق المشرع إلى ما إذا كانت المناقصة تتعلق بأعمال مقاولة أو أداء خدمات، مما يعني عدم إمكانية التجزئة فيهما .. كما لم يتطرق المشرع إلى حل الافتراضية التي توقعها، فماذا لو تساوت الأسعار بين عطاءين أو أكثر في مناقصة توريد الأصناف ولم يكن بالإمكان تجزئة المناقصة أو تحققت هذه الفرضية بشأن مناقصات الأعمال والخدمات .. هل يجب أن تقترع اللجنة بين العطاءات فترسي المناقصة على من تكون القرعة من حظه؟ أم يمكن للجنة أن تفاضل في هذه الحالة بين ا لجودة المقدمة، أو الصيانة المرافقة، أو تلجأ إلى معايير تفضيلية أخرى؟ لم يبين المشرع ذلك. ولأن ترسية المشروع على أقل العروض دون التحليل الوافي قد يؤدي إلى عدم اختيار العرض الأفضل، مما يؤثر وبشكل سلبي على المشروع ويعرضه إلى مشاكل لا حصر لها من عدة جوانب قد تؤدي في بعض الأحيان إلى إيقاف المشروع أو تغيير المقاول، ومن الأمثلة على هذه الجوانب التي قد تتأثر بالترسية غير الصحيحة، الجوانب الفنية، والمالية ، وأيضا طول فترة التنفيذ.
ضرورة الارتباط بالاعتمادات المالية المقدرة للمشروعات
فالنظام المحاسبي الحكومي يخضع عادة لنظام للرقابة على الاعتمادات، ويكون الهدف من المحاسبة هو تحقيق التوازن بين النفقات واعتمادات الميزانية وليس بين النفقات والإيرادات كما هو معمول به في القطاع الخاص، وبالتالي فإن النظام لا يهتم بتكاليف المشروعات من الناحية المحاسبية. ففي مؤسسات وشركات القطاع الخاص يتم الاهتمام بتكاليف المشروعات بهدف تحقيق الأرباح، وزيادة الحصة السوقية.. لذلك نجدها تهتم بمحاسبة التكاليف ونظمها وتتبع أفضل المعايير في ذلك ، أما في القطاع الحكومي فلا يوجد حافز للربح، ولا سوق تنافسية، ونتيجةً لذلك لا يوجد نظام لمحاسبة التكاليف، ويتم التركيز على صرف الأموال وفق الأنظمة والقوانين فقط بغض النظر عن كفاءة وفعالية إدارة هذه الأموال.وفي ظل غياب أساليب ومعايير محاسبة التكاليف، فإن ذلك يؤدي إلى تقديم مشاريع موازنات غير حقيقية وبالتالي تطبيق أسلوب المساومة بين وزارة المالية والجهات الحكومية الأخرى حسب قوة كل جهة في المساومة وعليه تقوم الجهات بزيادة تقديرات تكاليف المشروعات آخذين في الاعتبار أن وزارة المالية ستخفضها، وهذا ما يؤثر بالسلب على أداء تنفيذ المشاريع بشكل عام، واحتمال تكبد تكاليف إضافية ضخمة بعد انتهاء المشروع أو فشله وعدم الاستفادة منه.
صعوبة مراعاة ضوابط تصنيف المقاولين
تنص المادة 23 من النظام على أنه : يجوز» للجنة فحص العروض والتوصية باستبعاد أي عرض من العروض من المنافسة حتى لو كان أقل العروض سعراً .. وإذا تبين أن لدى صاحب العرض عدداً من المشاريع, وأن حجم التزاماته التعاقدية قد أصبح مرتفعاً على نحو يفوق قدراته المالية أو الفنية بما يؤثر على تنفيذه لالتزاماته التعاقدية, وفي هذه الحالة تتفاوض مع العطاء الذي يليه وفقاً لقواعد التفاوض المحددة في هذا النظام», إلا أن محاولته تلك لم يكتب لها الذيوع والانتشار وسط البيئة العملية لترسية المشاريع نظراً لما أحاطتها به اللائحة التنفيذية لنظام المنافسات من ضوابط حدَّت من فاعليتها.
نظام المنافسات يمنح الحرية للجهات الحكومية
أتاح نظام المنافسات الفرصة للجهات الحكومية لكي تقوم بتعديل بنود العقد بشكل شبه جذري، بقيامها بحذف بنود كاملة وتخفيض أخرى, وزيادة بنود أخرى داخل العقد ما دام محافظا على قيمته الإجمالية للعقد .. أن هذه الإجازة تؤدي إلى زيادة احتمالات تعثر أو ربما توقف المشاريع بالكامل .. وعلى الرغم من الضوابط التي حددتها المادة (58) من اللائحة التنفيذية للنظام, لممارسة أي تعديل أو تغيير في الأعمال المتعاقد على تنفيذها, وخاصة منها ضابط أن تحقق التغييرات اللازمة للأعمال بما يخدم مصلحة المرفق, على أن لا يؤدي ذلك إلى الإخلال بالشروط والمواصفات، أو التغيير في طبيعة العقد، أو توازنه المالي» إلا إن الواقع العملي يشهد بأن كثيراً من التعديلات والتغييرات تؤدي إلى تغيير فعلي في طبيعة العقود, وإلى إخلال كبير في توازنها المالي . فطبيعة العقد ستتغير حتماً بإجراء التغييرات الجذرية على بنوده .. أما التوازن المالي، فيختل نتيجة للإخلال بالآلية التي اتبعها المقاولون لتسعير عروضهم .. تلك الآلية التي تعتمد على رفع أسعار بنود معينة, وتخفيض أسعار بنود أخرى, لتظل العبرة بتناسب (إجمالي) العرض مع الأسعار السائدة في السوق وقت التعاقد .. وهذه الآلية هي التي تحفظ للمقاول حقه في الربح .. إلا أن تدخل الجهات الحكومية بحذف بنود, ربما تكون من ضمن تلك البنود التي رفع المقاول سعرها, وزيادة بنود أخرى ربما تكون من ضمن تلك التي خفض سعرها, اعتماداً على رؤيته لتوازن أسعاره, سيؤثر بلا شك على التوازن المالي الذي قصده المقاول عند التقدم بأسعاره. فالشاهد أن نظام المنافسات وكذلك التعاقدات بين الجهات الخاصة لا يوجد لها أو بها تقنينات واضحة للتعامل مع القوى القاهرة أو الظروف الطارئة حتى الآن .. وحتى تجارب التحكيم لا تزال غير صريحة في قدرتها على تسوية النزاعات الناجمة عن هذه الظروف الاستثنائية.