قد تكون البلاد العربية التي قامت بها ثورات الربيع العربي تفاجأت بخروج شعوبها وثورتهم، ولكن المتأمل يسهل عليه أن يلمح كيف عاشت هذه البلاد لعقود عدة مفتقدةً للغة التحاور فيما بينها، فلغة التخاطب المتاحة كانت السمع والطاعة أو التهديد والوعيد، وهذه الوسيلة لم
تعد تصلح لبدء مجادلة مثمرة أو تحريك مجتمع أو بناء مستقبل.
أعتقد جازمًا أن هذه البلاد وقعت ضحية تراث حضاري أبوي يؤمن بالحاكم المطلق بغض النظر عن مصالح الشعب الذي يحكمه، ما نقلهم عبر السنين من نظام سيئ إلى ما هو أسوأ، وشعر مواطنوها بأنهم خسروا احترام أنفسهم وأصبح الكثير منهم يحيا مقهورًا فكانت هذه الثورات.
لم تسمح هذه الدول التي كانت تزعم بوجود معارضة جادة داخل مجتمعاتها إلا بخلق معارضة مستأنسة وصورية، استخدمتها الأنظمة كوسيلة للتجمل أمام العالم الخارجي فقط، على بالرغم من أن المعارضة هي أساس المدافعة كي لا تفسد الأرض، ما جعل مواطنيها ينصرفون عنها ولا يأبهون لها أو يعتقدون أنه يمكن الوثوق بها في إحداث تغيير.
غاب الدعم الحقيقي لأي حراك معارض، ما أجبر التيارات المعارضة في جميع هذه الدول على الانحناء أمام العاصفة والتكيّف معها كلٌّ بطريقته، فغابت بالتالي المعارضة الفاعلة عن الساحة، وظهرت أشكال عدة من المعارضة في الدول العربية، منها: من انحنى إلى مسلك محاولة الإصلاح من داخل النظام السياسي القائم، وحاول المشاركة في مسرحيات التغيير والإصلاح التي فشلت جميعها، كتجربة الإخوان المسلمين في مصر والأردن وتجربة حركة التجديد في تونس وكذلك العدالة والتنمية في المغرب، حيث الأنظمة تناور وتمتلك غالبية الأوراق أما المعارضة فليس لها إلا القليل من أوراق اللعب التي يسمح بها النظام.
وهناك من ذهب باتجاه المواجهة المسلحة ولجأ إلى العنف على اختلاف درجاته، إلا أن آثاره كانت فاشلة في جميع تجاربه السابقة، ولنا في الصومال والسودان والجزائر عبرة، وأخيرًا المعارضة الناعمة التي اكتفت بكتابة المقالات وإصدار البيانات أو إعداد التقارير، ما شجع الجماهير على القيام بثوراتهم.
ولا ينكر أحد تأثير ربيع الثورات العربية على المعارضة في الأقطار العربية، حيث قدمت الثورات العربية عدة دروس، أولها تغيير وخلق واقع جديد خارج الأطر التي حددها النظام المهيمن، مثل أخذ الواقع وموازين القوى بعين الاعتبار. أما ثانيها فقد أثبتت هذه الثورات أن الجماهير ليست بحاجة إلى قوة السلاح للإطاحة بالحكومات الفاسدة بقدر ما هي بحاجة إلى إرادة شعبية ووعي وجرأة في المواجهة السلمية، أخيرًا أثبتت الجماهير استحالة التغيير من قبل الحكومات الفاسدة أو بالتحالف مع قوى خارجية ومنظمات دولية.
الإصلاح أولاً أخيرًا هو سمة رئيسة للعصر، وطرحه مرتبط بالضرورة بالحاجة المستمرة إليه وهو احتياج عضوي للإنسان في تبعاته الديمقراطية ونشر العدالة الاجتماعية بين الناس وحرية التعبير عن الرأي والقضاء على المحسوبية والفساد والفقر. وغياب الشرعية في دول الثورات أوجد حقيقةً عدم توازن بين المجتمع والدولة، سببه عدم دفع السلطات بعضها ببعض، وعدم تبادل السلطة السلمي والشرعي وانسداد شرايين الإصلاح وانقطاع الأمل فيه كل ذلك أوجد الطغيان والإفساد الذي أدى أخيرًا إلى هذه الثورات. وبكل أسف فإن تاريخ الفكر السياسي الإسلامي بما فيه السياسي الفقهي اتسم بالفقر والتسطيح.
لذا الآن على الحركات الإسلامية السياسية الفائزة في الثورات العربية ألا يكون جلّ اهتمامها برنامجًا داخليًا يهتم بسلوك الفرد وأسلمة المجتمع ودينية الدولة دون اهتمامه بالقضايا السياسية والاقتصادية الخارجية، فمن الخطأ أن تعتقد بعض الحركات الإسلامية أن نجاحها في الانتخابات هو تفويض لها بإعادة تشكيل المجتمع وإعادة تكييف الدولة المدنية لتجسد برنامج تلك الحركات ورؤيتها.
إن أية محاولة للإيحاء بضرورة وحتمية الالتزام بالبرنامج الاجتماعي للحركات الإسلامية لمجرد فوزها في أية انتخابات أمر غير مقبول، ولكن مما يبشر في هذا الصدد ما طرأ من تطور كبير وملحوظ على الفكر السياسي الإسلامي عند الأحزاب السياسية الإسلامية نفسها عبر العقود الأخيرة، فتعبيرات مثل الديمقراطية والدولة المدنية وحقوق الإنسان العالمية والتعددية السياسية والثقافية ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات أصبحت جزءًا من خطاب العديد من الأحزاب الإسلامية السياسية الكبيرة التي نجحت مؤخرًا في اقتحام الحياة السياسية العربية. والمطلوب من هذه الأحزاب هو الاستمرار في تطوير فكرها السياسي من أجل التعامل مع الأوضاع العربية الجديدة من جهة ومع مسؤولياتها وواجباتها الثقيلة الجديدة من جهة أخرى، حيث إن محاولة أي حزب سياسي لبس عباءة الدين وزعم احتكار الحقيقة يشكل خطورة مؤكدة على تعددية المجتمع ومدنية الدولة والمسار الديمقراطي الذي قد يختار أن يعزل حزبًا ما عن السلطة أو أن يضع حزبًا آخر فيها.
يجب أن ننتقل من التركيز على الإسلام الفردي إلى الإسلام السياسي الذي يركز على المال العام والمساواة وحرية الأفراد وحرمة أموالهم وأعراضهم، ولعل حزب التقدم والعدالة في تركيا يشكل نموذجًا يتوجب على الحركات الإسلامية العربية المرشحة للمشاركة في الحكم أن تقتدي به وأن تقدم الضمانات على قدرتها على لعب دور مماثل كل في بلده.
tfrasheed@hotmail.com