تاريخياً، كان مفهوم المحاماة في المملكة بسيطاً؛ لأنه مرتبط بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية البسيطة السائدة، وهو ما يفسر أيضاً بساطة المؤسسة القضائية في ذلك الوقت، التي اقتصرت على عدد محدود من المراجع الفقهية، وأيضاً بسبب أن أغلب المشاكل كانت اجتماعية (زواج، طلاق، إرث)، وحتى الاختلافات المالية، مثل الخلاف على أرض، أو بئر.. كلها لا تتطلب تعقيداً، أو جهداً، أكثر من الجلوس لدى قاضٍ يعود إلى إرث قال فلان عن فلان عن فلان.. إلخ، بل إن كثيراً من الأحكام كانت - وما زالت - تصدر استناداً إلى أعراف اجتماعية متوارثة.
وعندما حدثت الطفرة النفطية في عام 1973م، وما صاحبها من حضور شركات عالمية، ترغب في العمل في المملكة، فوجئوا بوجود عدد قليل من المكاتب القانونية لتسجيل الشركات، وقد قامت تلك المكاتب بدور مزدوج؛ فهي سجلت تلك الشركات، وفي حالات كثيرة أسس أصحاب المكاتب القانونية شركات شقيقة؛ لتكون هي الشريك للشركات الأجنبية، وهو إجراء فيه تضارب مصالح، ولكن لم يكن هناك من يسأل!!
المحصلة المهمة لكل ذلك هي أن صناعة المحاماة لم تتطور لدينا بشكل صحيح، لا الجزء المتعلق بالمحاكم السعودية، التي بقيت تقليدية، وغير متطورة، وكذلك نشاط المحاماة المرتبط بالشركات الأجنبية؛ وذلك لأنه بقي بعيداً عن المجتمع، وأحد أسباب بعده هو ارتفاع كلفته؛ حيث لا يستخدمه إلا الشركات الكبرى، التي تحصل على عقود تبرر تكلفة مصاريف المحاماة.
المحامون التقليديون يصرون على الحصول على نسبة من قيمة القضية، ومحامو الشركات (و 99 % منهم غير سعوديين) يحصلون على مبالغ تصل إلى (2,500 ريال) عن كل ساعة عمل، ومن ثم فإن الدخل اليومي لذلك المحامي، والمكتب الذي يعمل فيه، لا يقل عن (20,000) ريال.
لماذا تترك تلك الوظائف لغير السعوديين؟؟ السبب هو أن شبابنا لا يقبلون على تلك الوظائف، ومن يسمون محامون تقليديون هم في واقع الحال ممن يجيدون المجادلة فقط، يذهبون إلى المحاكم التقليدية، وكثير منهم يحرصون على أن تكون هيئتهم مقبولة لدى القاضي التقليدي؛ وذلك لتحسين فرص حصولهم على أحكام صديقة لهم.
قد يقول قائل: ولماذا الحديث عن نشاط لا يوظف إلا بضع مئات من الأشخاص فقط؟ لكن الجواب هو أن المحاكم التقليدية مقصرة، وتؤخر أمور المجتمع؛ لأنها تعمل حسب هواها؟! أما نشاط المحاماة الخاصة بالشركات فهو يستفيد من حاجة الشركات للتسجيل، والمرافعة؛ لكي يتربح من الشركات بشكل غير معقول.
ولكن لنفترض أن الوضع القادم سيتغير إلى الأحسن، من حيث وضع المحاكم، وذلك من خلال برنامج الملك عبد الله لتطوير القضاء، ومن ثم دعونا نتوقع تحسن وضع نشاط المحاماة بشقيها، ولنفترض أن طبيعة النشاط التجاري بدأت تتطور؛ حيث سيتطلب الأمر أن يكون لدى كل شركة، ومؤسسة، مستشار قانوني داخلي، بجانب المحامي الخارجي، وكل ذلك سيفتح آفاقاً جديدة لشغل تلك الوظيفة المهمة، وسيزيد عدد موظفيها إلى الآلاف، وستبقى تلك الآلاف المؤلفة من الريالات في الاقتصاد المحلي، بدلاً من تحويلها إلى الخارج!!
mandeel@siig.com.sa