بعض المتخصصين مثل سعادة الدكتور فهد العنزي (عضو مجلس الشورى وخبير التأمين) في حواره مع صحيفة الشرق الأوسط في 24-4-1433هـ - يرى أنّ التأمين على المواطنين كافة لا يحتاج لأكثر من (19) مليار ريال سنوياً - على أساس أن قيمة القسط (1000) ريال للفرد الواحد، في حين أن وزارة الصحة بلغت ميزانيتها عام 1433-1434هـ (70) مليار ريال - (الرقم الصحيح هو (47) مليار ريال ولعله لم يكن يعني وزارة الصحة بل القطاع الصحي الحكومي بشكل عام).
يا له من حلم جميل ! حتى العامل الأجنبي البسيط يحلم به! لو أتيح له مقابل ألف ريال في السنة أن يحصل على الرعاية الطبية الشاملة الكاملة التي تقدمها الدولة للمواطن. ولكن الواقع أن مقدار القسط السنوي للعامل الوافد يبلغ في المتوسط (850) ريالاً، ويقتصر على الخدمات الأساسية في الكشف والعلاج الدوائي والجراحي ونوع غرف التنويم، بموجب وثيقة الضمان الصحي التعاوني الموحدة، وقيمة القسط مبنية على تغطية أعداد كبيرة معظمهم ذوو أعمار شابة. ولو رفع القسط إلى ألف ريال لما تغيّر شيء ذو بال في حزمة المنافع التي يحصل عليها المستفيد.
لذلك يفرض السؤال التالي نفسه: هل المواطن السعودي على استعداد للتخلِّي عن مجانية الرعاية الحكومية الشاملة والكاملة مقابل التأمين الصحي الأساسي بقيمة قسط سنوي مقداره ألف ريال وهو يعلم:
- أنّ هذا القسط يغطي الخدمات الأساسية فقط بدون الاستثناءات العديدة التي تتضمّنها وثيقة التأمين (والمجال هنا لا يتسع لسردها).
- أنّ هناك مبلغ اقتطاع (أو تحمل) عند مراجعة العيادة (يصل إلى مائة ريال كحد أعلى).
- أنّ هذا القسط السنوي ليس مفروضاً الالتزام به في حالة التأمين الفردي مع كبار السن (غير المعالين وغير العاملين بأجر).
- أنّ التنويم في غرف مشتركة.
- أنه يجب التقيد بتسلسل الخدمة من الطبيب المقيم - الأخصائي - الاستشاري.
- أنّ غرف الانتظار في أحيان كثيرة مكتظة بالمراجعين.
- أنّ بعض قرارات الأطباء (مثل التنويم وإجراء فحوصات مكلفة كالرنين المغناطيسي)، تحتاج لموافقة شركة التأمين (وإن كانت لائحة النظام تشترط الرد خلال ستين دقيقة).
- أنّ الحد الأعلى للتغطية في السنة يجب أن لا يزيد على مائتين وخمسين ألف ريال (بعض العلاجات تتطلب أكثر من ذلك).
لعله من أجل ذلك أوضح معالي وزير الصحة في لقائه مع جريدة الرياض (ندوة الثلاثاء في 22-3-1433هـ)، أنه عندما تطبق الرعاية الصحية بمفهومها الصحيح سيرتفع مستوى التأمين من (1200) إلى (4000 - 5000 - 6000) ريال، أي بحساب بسيط بالضرب في (20) مليون مواطن ستصل إلى مائة مليار ريال. وعند الأخذ بهذا التقدير فإنه يمثل أكثر من ضعف ميزانية وزارة الصحة، أو يساوي مجمل الاتفاق الصحي في المملكة (القطاع العام والقطاع الخاص) في عام واحد، وليس كما يفهم من إفادة سعادة الدكتور فهد العنزي (19) مليار ريال فقط. هذا لا يعني بالضرورة صواب التريث في دراسة موضوع التأمين الصحي الشامل على المواطنين لعدة سنوات، أو الرأي بأنّ الأفضل هو صرف هذه المليارات على الصحة. فالتأمين الصحي - كما هو معروف - ليس وسيلة تمويل للخدمة فقط، بل إنه أداة فعّالة لتنظيم الخدمة بطريقة تضمن الجودة وفعالية التكلفة، حتى لو كانت الحكومة تتحمل تكاليف التأمين بالكامل - سواء عن طريق إيرادات الدخل الريعي (النفط مثلاً) أو الضرائب. ذلك أنه يحقق المزايا التالية التي أصبحت ضرورية لإدارة النظام الصحي في أي بلد:
1- أنه يسمح بأن تكون الجهة التي تمول (تشتري) الخدمة منفصلة عن الجهة التي تقدم الخدمة.
2- أنّ هذا الفصل يتيح مطالبة الجهة المقدمة للخدمة بضمان الجودة وفعالية التكلفة ومراقبة تنفيذ هذا المطلب.
3- أنّ هذا الفصل يمكّن وزارة الصحة من التفرغ للخدمات الوقائية وتوعية المجتمع، وللتخطيط والرقابة والمتابعة ووضع السياسات والأنظمة وقياس المخرجات الصحية، وتمويل الأبحاث الصحية.
4- أنّ التمويل بواسطة جهة مستقلة للتأمين الصحي (التي قد تكون شركة أهلية أو صندوقاً حكومياً أو هما معاً) - بصرف النظر عن طريقة الدفع لمقدم الخدمة (سواء كان من خلال مبلغ سنوي محدد (ميزانية وحدة) أو مقابل عدد المرضى أو نظير كل خدمة Fee for service) فيه حافز للإنتاج وكفاءة الأداء، لا سيما عند ربط التمويل بنتائج تقييم الأداء.
5- أنّ التمويل من قِبل جهة التأمين الصحي المستقلة يتم بشراء الخدمة التي تقدم للمرضى بصرف النظر عن جهة تقديمها - سواء كانت مملوكة للقطاع الخاص أو للحكومة أو لجهة شبه حكومية، وبذلك تتحقق شمولية الاستفادة من جميع مكونات النظام الصحي بعكس ما هو حاصل الآن من فصل تام في تقديم الخدمة بين مرافق القطاع الخاص والعام ومن ثم إهدار الموارد البشرية وإزدواجية الخدمات، كما أنه يتيح للمواطن مراجعة القطاع الخاص التي من أجلها يطالب بالتأمين الصحي.
ولا يغيب عن البال عند النظر في جدوى تعميم تطبيق التأمين الصحي على المواطنين أنّ هناك متطلبات إدارية يجب تحقيقها وخاصة:
- تعميم استخدام تقنية المعلومات الحديثة لضمان تدفق المعلومات بين مكونات النظام الصحي ومنع الازدواجية وتحسين كفاءة الإحالة وإجراءات القبول والمحاسبة وحساب التكاليف (وقد أشار إلى ذلك معالي الوزير).
- تطبيق أسلوب الإدارة الذاتية البعيدة عن المركزية في القطاع الصحي الحكومي للتعامل المرن مع أسلوب التمويل الجديد ولتطبيق أسس الإدارة الاقتصادية - أي تخصص أسلوب الإدارة ولا يعني ذلك نقل الملكية أو التشغيل للقطاع الخاص.
وفي كل الأحوال فإنّ الآمال معقودة بمجلسي الخدمات الصحية والضمان الصحي لإجراء الدراسة الشاملة المنشودة عن النموذج الأمثل من التأمين الصحي الملائم لثقافة ومكونات المجتمع السعودي. ولعل الانتظار لا يطول.