قال كوني لها ربُّها واستوى
ثم كانتْ كما شاء في الأزلِ
وردةً في الرُّبى بارقاً في الدُّجى
فكرةً في النُّهى عَذْبَةَ المنهل
ثم أوحى لها ربُّها فتجلَّى
[م م] سنا شمسها ساحراً من عَلِ
هي من ؟.. هي نَفْحُ الهوى أصْلُه
سُهْدُه وَجْدُه نارُه تغْتلي
هي مَسُّ الغِوَى والجَوى والصواعقُ
[م م] للخافق الهائم المُصطلي
قال مجنونُها: صرتُ أعلو لها
أرتجي مدداً.. طَلْعُه أجتلي
ذُقْتُها مرةً سكرةً مِن لَمَى
شَفَةٍ خِلْتُها صحوةَ الأجل
ذُبْتُ فيها كما لم أزل.. لم أزل
أرتجي في بحار الهوى أملي
قلتُ: يا نارُ كوني مدى العُمْر وَقْداً
[م م] فذا قَدَري والمُنى شُعَلي
وأنا والهوى آهةٌ وَتَرٌ
ضائعٌ في المدى الشاردِ الشَّمِل
وأنا في مهبِّ الشَّجَى ساهمٌ
مُسْهَدٌ ساجدٌ لِسَنا المُقَلِ
أبديٌّ أنا ؟.. لم أَقُلْ فَسَلي [م]
العُمْرَ مِنِّي.. خُذِيهِ فداءً.. سَلِي
وامْنحي لَمْسةً.. نظرةً.. رَشْفَةً
نَخْبُها فاض من كوثرٍ سَلْسَل
أزرعُ الحُلْمَ منها لها ليلةً
ليلةً يرتوي من طِلا جدول
هذه قصيدة عِرْفانية نُورانية نفيسة للدكتور عبدالعزيز خوجة فَهِمها الحواةُ على أنها قصيدة غزلية أرضية !!.. فاللهم لك الحمد !.
قال أبوعبدالرحمن: قد أسرُّ الدكتورَ بأن أكون خِرِّيتاً في مجاهِل بثِّ الشعراء: أجتلي القيم الفكرية، وأطرب لِلَّمسات الجمالية، وأقتنص المراد (المعاني) بالمباشرة أو بالتدقيق في مآل القول حسب مذهبي الذي هو (منهج النقد التفسيري التعاوني الجمالي).. ولن أُحْفِظه إن لذعته لذعاتٍ خفيفة، ولن تكون قارصةً وإن استحقها مِنِّي غيرُه.. لا طمعاً في جاه مَنْصِبِه - وهو لم يُقصِّر تلقائياً -؛ وإنما ذلك عِرْفان بما سَلَفَ من فضله مع أخيه الظاهري [تراجعتُ عن (ابنه)؛ لأننا متقاربان في السن].. وعِرفان بما هو عليه الآن وسابقاً من كريم الأخلاق؛ أفتجوز القسوة - وإن كانت في محلها مع غيره - ؟.. كلَّا.. بل لأهل الفضل لِيْنُ القول؛ وإنما أدمغ مَنْ يبعر بقلمه بعراً.. وقد (والعلم عند الله) أُحْفظُ الدكتور بقسوتي على بعض الحواة الدارسي شعره تَمْعلماً ومجاملةً تضرُّ ولا تنفع.. ومِن هؤلاء الأخيار الدكتورة حورية الخمليشي في كتابها (التجليات الفنية في شعر عبدالعزيز خوجة)؛ فقد أنفقتْ في مطلع دراستها سِتَّ ورقاتٍ ونصفَ صفحة عن ظاهرة الموسيقى في الشعر بعرضٍ إنشائي هُلامي لا يستخرج الغِرْبال منه شيئاً، وَمَوَّهتْ ذلك برصِّ مراجع خواجية بعضها لَغْوٌ وبعضها نفيس لم تفهمه.. ولو دخلوا جُحْر ضبٍّ لدخلتموه.. والذي استفدته العلمُ بما في جدول القصائد المُغنَّاة من شعر الدكتور(1)، ولم أكن أعلم ذلك؛ لأنني أيام المَيْعَة الفنية أصطفي أصواتاً خاصة من مِصْرَ خاصة أيضاً بذوق ظاهري لا يُغلب.. ثم أتحفتنا الدكتورة حورية ببدعة الرسم البياني(2) عن التفاعل مع الشاعر والمتلقِّي بتسلسلٍ هَرَمي ابتداء بالكاتب [شاعرنا عبدالعزيز]، ثم إنتاج النصِّ فئة أولى [ميلاد القصيدة الذي قد يكون تلقائياً، وقد يكون عن استعداد]، ثم المُحتَوى فئة أولى [ولعله المعنى الواضح بلا تعمُّق]، ثم عملية التأويل والتفسير فئة ثانية [يعني فهم النص بالسَّبْر المُضْني بخلاف المُحتَوى السابق ذِكْرُه]، ثم القارئ [المتلقِّي كالظاهري، وقد يكون التلقي سماعاً لا قراءة].. وطال انتظاري للنماذج من شعر الدكتور؛ فإذا هي تُنْعم علينا بمقاطع ليست هي الأميز من شعر الدكتور، كما أنعمت علينا بجدول للدلالات السيميائية نقلاً عن محمد مفتاح (3).. ولا يعيب هذه التحفة إلا التحليل بأسلوب عربي مبين؛ لنفهم معاني الجدول، ولنعرف مدى قيمتها، ولنعلم أنها هي فهمتها، ولنعلم أن التفاعل مع العر لا يكون مُوَفَّقاً إلا بهذا الجدول البِدْعي أو الإبداعي ؟؟؟.. ثم أنعمت علينا ثالثة بتحليل عجيب يستنبط شعر الدكتور في زعمها من أعماق ذلك الجدول، وكان الابتداء بقصيدة (العزف على الجدائل) (4)، وذكرت بداية منهج التطبيق بقولها: « يمكن أن نطبق هذا الجدول على أيِّ نص شعري؛ لأنه يتألف من معطيات علمية إنسانية واجتماعية بما فيها الحروف، والأصوات، والعلامات، والتشكل، والمعنى، ونواة المعنى، واحتمال المعنى، والصمت، والدلالة، و المحاكاة، وبداية التأويل، ونهايته، والرمز، والمحسنات البلاغية.. وهي عملية ديداكتيكية (5) عميقة لدراسة جمالية القصيدة «(6).
قال أبوعبدالرحمن: كل هذا أفهمه من بدع وإبداع السيمياء، وَوَدِدْتُ أنني لم أفقه كثيراً من اللغو.. ولكنني ههنا على كل حال أُرحِّب بدلالات السيمياء انتقاءً لا مُجْملاً؛ كي لا أدخل في جحر ضَبِّهم.. أريد نواة المعنى وبِذْرته، وأريد احتمال المعنى حينما أعجز عن التعيين، وأريد أن أستنبط من فضاء النص (الصمت).. إلخ.. إلخ.. ولكن بدون افتراء، بل لابُدَّ من معهود تاريخي للشاعر نفسه، ولا بُدَّ من معهود عُرْفي لأبناء جيله؛ ففي التراث دلالات سيميائية معهودة أو عرفية ولاسيما عند أهل التصوف كدلالة الخمْرة بغير معناها القبيح، وكدلالة الحُمْرة والزرقة عندهم وعند غيرهم، ودلالة الصُّغرة على باعثها كالوجل، وكخفايا الإعجاز التي دقَّق فيها عبد القاهر والسكاكي والباقلاني، وكدلالة الأصوات جمالياً في الألسنية العربية التراثية كما عند ابن جني وشيخه أبي علي الفارسي.. وهكذا أريد المعهود التاريخي للشاعر وجيله في استكناه فضاء النص إذا لم يكن الصمت عن نقيض لا عن ضِدٍّ؛ لأن النقيض متعيِّن، ولا ثالث للنقيضين إلا العدم.. وأريد استكناه المُحتَمَل في فضاء النص، وهو باب واسع من الاستنباط في تراثنا إذا تناول العلماء قراءة النص الشرعي أو النص من أدبيات العلوم الأخرى.. إلا أنهم لا يُحَمِّلُون فضاء النص ما يتنافى مع معهود قائل النص الشرعي المعصوم، ولا مع معهود قائل النص من البشر من ناحية تديُّنه أو تمذهبه، وكل ذلك معروف من سيرته.. والمحتملُ في حيِّز الإمكان لتخلُّف المُقتَضِي والمانع معاً، وهو مُوجِبٌ التوقُّفَ عن التعيين؛ لتخلُّف المُرَجِّح.. ومن المرجِّحات معهود الشاعر وسيرته؛ فكل فضاء في مثل لزوميات أبي العلاء المعرِّي لا يمكن أن تستنبط منه هضماً منه صحيحاً لبراهين العلم يمنعه من التشكيك، ولا يمكن أن تحمله على إيمان صادق بالله، ولا يمكن أن تحمله على حيرة واحدة حول عدل الله وإحسانه في مخلوقاته، ولا يمكن أن تحمله على براءة من غُنوصيَّة الباطنية المجرمة، ولا يمكن أن تحمل غير المسكوت عنه من التمظهر بالشفافية والرحمة على غير الترويج للإحْنة الباطنية.. ولا يمكن أن تستنبط من فضاء النص ما يتنافى مع المقام الكريم في دين الله المعهود عن قائل النص من أعلام المسلمين كما يفعل مسترحلو عبث السيميائية للتشكيك في سلوك ونوايا (7) القائمين مقام الغيورين الصالحين.. وهؤلاء المسترحلون من أعداء ملتنا ونحلتنا وكياننا تاريخاً ولغوتَرِكَةً.. والتأويل منه ما هو شهوةُ متستٍّر بالنفاق حول الإيمان بالنص وقائله، ومنه ما هو استئسار لتراث بشري يعتقد أنه كلُّه هو المعقول كسلوك ابن طُفيل وابن رشد في تأويل الشرع تمسُّكاً بمنطق أرسطو وفلسفة الأوائل اللتين يسميانهما الحكمة، ويريان أنهما العقل، وهؤلاء هم أهل تجهيلِ علماء الشريعة ووصفهم بالعوام.. والتأويل له أصوله البرهانية من علوم الدلالة، وليس الغرض منه تعطيلَ النص؛ وإنما غرضه سبر سياق الكلام لمعرفة مآل دلالته إذا تعذَّر الحمل على الواضح الجليِّ، أو قام البرهان على عدم إرادته، ثم لا بُدَّ ضرورةً من دلالةٍ على مآل الكلام من لغة المتكلِّم نفسه؛ فإذا تخلَّفتْ دلالةُ التصحيح من لغة المتكلِّم لم يكن ما سُمِّي مآلاً سوى افتراءٍ شهواني على قائل النص.. وكل دلالة سيميائية استجدَّت ليست من معهود صاحب النص، ولا من الثقافة المشتركة في أبناء جيله فلا يحلُّ - لا خُلُقاً، ولا فكراً، ولا ديناً - تفسيرُ نصِّه بها؛ لأن ذلك هو الافتراء والإفك بعينه.. هذا من ناحية التأصيل، وأنتظر من الدكتورة حورية لمسات تطبيقية تجتلي من قصيدة الدكتور عبدالعزيز ما ذكَرَتْهُ من معطيات علمية وإنسانية.. إلخ.. إلخ؛ وذلك هو ما وَعَدَتْ به تطبيقاً؛ فقد أوردتْ قصيدة العزف على الجدائل من ديوان (مئة قصيدة وقصيدة للقمر) الصادر عن الدار العربية للعلوم، ولم أطَّلع على هذا الديوان، ولكنني نقلتها من الديوان الكبير للدكتور عبدالعزيز (8)؛ فماذا قالت حفظها الله في دراستها التطبيقية ؟!.. إليكم هذا التحليل المبارك.. قالت:
« وقد وقع اختيارنا على قصيدة (عزف منفرد على ليل الجدائل) لعبدالعزيز خوجة؛ لأنها تجمع بين تداخل الفنون: الشعر، إلى جانب الموسيقا، والتشكيل من حيث صورها الشعرية؛ فبدت القصيدة بمثابة لوحة بارعة الرسم، تثير اهتمام القارئ، وهي كذلك بمثابة قطعة موسيقية في تناغم حروفها وأصواتها؛ فعزف منفرد على ليل الجدائل بمثابة عزف منفرد على وتر النص الشعري لإيقاعها المميز الذي تُحدثه المقاطع المتوازنة والتناسق الجميل بين الألفاظ والحروف «(9).. وقالت: « فالقصيدة بمثابة قطعة موسيقية، ولا غرابة في أن يستعمل فيها مصطلحات تنتمي إلى عالم الموسيقا كالعزف والوتر والنشيد؛ فالشعر في نظر الشاعر أنشودة عشق أبديٍّ حتى ولو كان مُضْنياً.. في هذه القصيدة يمكن أن نتحدث عن الصوت والحرف والمعنى ونواة المعنى والدلالة والتأويل وبداية التأويل ونهايته والشكل والنوع والقيمة.. لقد بدت القصيدة بمثابة مقطوعة موسيقية أوركيسترالية (10) بعدد من الآلات المختلفة النغمات يكون فيها اللحن قادراً على خلق تماسك جميل بين الأصوات المختلفة.. امتازت فيه القصيدة بتناسق البنية الصوتية والدلالية في تداخل بين الإيقاعين الداخلي والخارجي، وسنلاحظ كيف اهتم الشاعر بهذا التوزيع الصوتي الإيقاعي في القصيدة وهي غنية بالمصطلحات التي تنتمي إلى معجم العِشق والعشاق كقوله: الهوى، والجوى، والسهد، وآهة، والحُلُم، وعذبة المنهل، والهائم، وسكرة، والجنون.
يوضح الجدول اعتماد الشاعر على الإيقاع الداخلي للنص: من حيث جمالية الصور البلاغية، وانتقاء الحروف، والتكرار اللفظي المنظم؛ فكرر مثلاً حرف السين 13 مرة، وحرف اللام 22 مرة، بالإضافة إلى التكرار المنظَّم لعدد من الضمائر والكلمات: خلق توازناً صوتياً في علاقته بالإيقاع النفسي وعاطفة الشاعر، وهذا النموذج صنوٌ أصيل لشعر الغزل العذري الأفلاطوني يحقق تناغماً عروضياً موسيقياً.. وتطرح القصيدة موضوع المحبة الإنسانية الكونية التي تقترب من المحبة الإلهية في كل معانيها.. وغالباً ما يبتعد الشاعر عن الوزن الواحد والقافية الواحدة، بل اعتمد في شعره على التنويع في الأبحر الشعرية، وتعداد القوافي، وانتقاء الحروف في تناسق جميل يدل على استيعابه للنظرية الموسيقية ومكوناتها من حيث النغم والصوت «(11).
قال أبوعبدالرحمن: مدداً مدداً يا رب.. ولا نزال في طروحات دعوية لم تُظْهرها من مضامين وتضاعيف النص، بل لخَّصت الدعوى بأن المضمون العام للقصيدة (المحبةُ الإنسانية الكونية التي تقترب من المحبة الإلهية)، وقد زعمتْ قبل ذلك أن القصيدة صنو الشعر الغزلي العذري الأفلاطوني؛ فسبحان من وَفَّقها للجمع بين المتناقضات ؟؟!!.. سبحان الله !!.. جعلتها كواوات الخدود على أصداغ المِلاح؛ وإنما هي ألف الوصل العمودية التي تريد القفز إلى وردة المعرفة في الأعالي.. إنها والله العشق المضني للمعرفة الذوقية بالرب جل جلاله على منهج أهل الطريقة.. والقصيدة عند حورية (عشق أبدي) ؟!!.. مع أن الشاعر لم يقل ذلك عن القصيدة؛ وإنما نفى الأبدية عن نفسه وشعره لا عن كل قصيدة.. أوَ لم يَقُلْ لها: (أبديٌّ أنا ؟.. لم أقل)؛ وإنما الأبدية في براهين الله.. ثم إنني أُعطي حوريةَ والقارئَ الكريم مفاتيح القصيدة؛ فقد ابتدأ أولاً بالاقتباس من القرآن الكريم عن الكون الذي نعيشه الآن (ولله أكوان قبل ذلك لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى)؛ ذلك عندما خلق السموات والأرض، وقال لهما إئتيا طوعاً أو كَرهاً بعد أن استوى على عرشه بما يليق بجلاله وعظمته؛ فإياك أن تظنَّ أن هذه المعشوقة حورية من البشر الفاني؛ فهي أحقر مِن أن يُقدَّم لها بهذا الجلال؛ وإنما العشق للحقيقة بمعرفة مباشرة لا بعلم دال على المغيَّب بالوصف الذي هو مُطابقةٌ في الواقعِ المغيَّبِ ومقاربةٌ في العقل البشري المخلوق المحدود؛ وذلك هو مدلول قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} (190) سورة آل عمران، ولكن بذوق قلبي على منهج أهل الطريقة، ولهذا انْماعَ الشاعر مع رموزهم:
(الجوى، السكرة.. إلخ)، والذي أُحقِّقه أن العابد العالم المحسن يعلم علمَ اليقين آيات ربه الدالة عليه بيقين، وتحصل له معرفة قلبية ذوقية بربه؛ فيعبده كأنه يراه؛ لِما يستشعره من الكمال المطلق لربه، والتقديس المطلق لربه، وألطافه وأنسه بربه في خلوته للعبادة، ومناجاتِه ربَّه بالدعاء، وتتابعِ استجابة ربه في السراء والضراء؛ فيعلم أن ربه قريب مجيب لا يُبعده عن ملكوته مسافة ولا زمان مما اضطربت فيه عقول المتفلسفة من خَلاءٍ ومَلاءٍ؛ بل الكون كله في قبضته مهما أوسع كما يشاء؛ فهو الكبير المتعال في صفته القريب بقدرته وإحاطته وهيمنته ولطفه؛ وإنما المهم تطهير منهج أهل الطريقة من الرموز والبثور الكريهة التي يتحوَّل بها مدلول الجوى والخمرة والشَّفَة؛ فلو كان هذا حقاً لكان الأولى باستعارته السابقون الأولون [اسم كان مؤخر] من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.. ثم كيف تكون القصيدةُ مقارِبةً المحبةَ الإلهية ؟!.. أبعد قول الشاعر (ساجد لِسَنا المقل) مقاربة ؟.. أبعد قوله: (أرتجي مدداً) مقاربة ؟.. إنها عين المحبة الإلهية بإذعان وخضوع العقل والقلب لبراهين الحقيقة التي هي الوردةُ والبارق والفكرة والمَنْهَل في رمزيات الدكتور.. إلخ؛ فكل ذلك هو الآيات المبثوثة في كون الله وفي مشاعر القلوب المؤمنة.. والحديث عن هذه القصيدة طويل يأتي إن شاء الله في الابتسامة الآتية.
طَيْرُ البحر:
يا لجحدريْ لا يعْجِبِكْ كثرةَ الحومْ
طيرَ البحرْ ما يغْرِِقِهْ كُودِ ظِلِّهْ
هكذا قال تركي ابن حميد لندِّه محمد بن هادي عفا الله عنهما.. و الحوم في العرف العام للطيور، وفي المجاز العابر يشمل دوران مَن يمشون على وجه الأرض، وبالبلاغة الفطرية - لأنهم لا يقرؤون قوانين البلاغة والمُحَسِّنات البديعية - يَكْنُون بكثرة الحوم عن كثرة الجموع التي تمشي على وجه الأرض؛ ليتوصلوا بالفطرة إلى ما يُسمِّيه البلاغيون (حسن التعليل)، ومن أغراض حسن التعليل الإفْحامُ بالحجة، وطير البحر الضعيف يرى ظِلَّه في البحر، فيحسبه صيداً، فَيَهْوِي عليه بكلِّ قوة بعد تدويم وتنجيم بعيد في العلوِّ ؛ فيَلْقى حتفَه بالغرق، وما غرق إلا بأمر الله ثم قوَّة جهده في الحوم والتدويم والسقوط مِن عَلِ.. إن البلاغة فطرة عند الموهوبين من عربي وأعجمي، ومن فصيح وعامي.
موسيقا أو موسيقى:
تُلِحُّ الدكتورة حورية على كتابتها (موسيقا)؛ ولذلك وَجْهٌ غيرُ حتميٍّ.. قال الأستاذ محمد العدناني: « ويكتبون موسيقى بالألف المقصورة، والصواب: موسيقا؛ لأن جميع الكلمات الأعجمية المنتهية بألف تُكتب بالألف العادية غير المقصورة ما عدا أربع كلمات هي: عيسى (عبرية)، وموسى (عبرية)، وكسرى (فارسية)، وبخارى (فارسية) كما جاء في ص35 من كتاب « أدب المملي « للمنفلوطي ورفاقه (الطبعة الأولى).. مع ذلك أقترح أن نضيف الكلمة اليونانية الأصل (موسيقا) إلى تلك الكلمات الأربع، ونكتبها (موسيقى)؛ لأن معظم الأدباء - ما عدا أدباء سورية - وجميع المعاجم الحديثة التي اطلعتُ عليها، ومنها المعجم الوسيط ومعجم مجمع اللغة العربية بالقاهرة تكتبها بالألف المقصورة؛ فحبذا لو حَذَتْ مجامعنا في دمشق وبغداد وعمَّان ومكتب تنسيق التعريب في الرباط حذوَ مجمعنا في القاهرة « (12).. وقال الدكتور محمود شاكر سعيد: «الموسيقى والموسيقا فن تأليف الألحان وإيقاعها، وكذلك الغناء والتطريب هو الموسيقى، وهي كلمة يونانية الأصل تطلق على فنون العزف على آلات الطرب.. ويجوز في حرف القاف الفتح أو الكسر؛ لذا يرى كثيرون أن تكتب بالألف الممدودة (موسيقا)؛ لأنها اسم أعجمي.. وأجاز بعضهم كتابتها بالمقصورة (موسيقى)؛ لأنها اسم زائد على ثلاثة أحرف ولم يسبق آخره ألف.. أما مَن كسر القاف فلا يكتبها إلا بالياء (موسيقي) دون تشديد «(13).
قال أبوعبدالرحمن: ههنا وقفات:
أولاها: أن استعمال العرب للموسيقَى اقتراضٌ لا تعريب.
وثانيتها: أن المُقتَرض لا يَبقى على أصله الأعجمي حتماً، بل يُرَدُّ إلى ما يوافق اللسان العربي سهولةً أو تصريفاً.. ألا ترى أننا اقترضنا (التلفزيون) فثَقُل علينا، فرددناه إلى أوزاننا من أجل السهولة؛ فقلنا (التلفاز)، وصرَّفنا منه فعلاً ومصدراً؛ فقلنا: تَلْفَز تلفزةً، ولا يتسنى لنا ذلك من الاحتفاظ بالأصل الأعجمي الخارج عن أوزاننا ؟.. وهكذا (موسيقى) فنحن محتاجون إلى تصريفها في النسب، ولو أبقينا الألف العادية لقلنا: (موسيقوي)، فجئنا بالألف واواً، وياء النسب المشدَّدة في الوصل، فتلك ثلاثة أحرف، وكتابة (موسيقَى) لا تحوجنا إلى ذلك، بل نأتي بياء النسب مشدَّدة في الوصل.
وثالثتها: أن النسبة إلى موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام موسوي وعيسوي.. ومع هذا أُخْتير رسم (موسى) من أجل سهولة الاقتصاد في الحروف.
ورابعتها: تعيَّن بذلك أن (موسيقى) أرجح وأصح.
وخامستها: أن (موسيقى) في تعريفها ليست بالشمول الذي ذكره محمود شاكر سعيد من جهة أصل الاستعمال، بل هي اسم للآلات التي إذا اجتمعتْ كلُّها أو بعضُها وتناوحت سُمِّيتْ (جُوقة)، وخصِّيصة هذه الآلات أنها تُحْدِث أنغاماً مطربة بوحدة لحنية ذات مسافات محدَّدة زماناً مرتَّبة مكاناً.. وأنغاماً مطربة بغير وحدة لحنية؛ ولهذا تُحوِّل النثر غير الموزون إلى أنغام من غير وحدة لحنية.. ومن خصِّيصتها أنها لا تفتقر إلى الكلمات، ولكن الكلمات تفتقر إليها وزناً ولحناً ؛ وبهذا السبب توسَّع مدلولُها مجازاً؛ فشمل الألحان والإيقاعات والغناء والتطريب التي قد تكون بغير آلة؛ لأن مردَّ ضَبْطِها إلى (النوتة) التي يقرؤها صاحب الآلة؛ ولهذا سُمِّي المشير بحركاته إلى فرقة الجوقة قائداً موسيقياً.
وسادستها: أن (كثيرون) إنما تُحتمل في جمع المذكر السالم؛ من أجل المطابقة، وأما جموع التكسيركرجال، وأسماء الأجناس كالناس، وما لا واحد له من لفظه كالقوم فالصواب فيها (كثير)؛ لأن الكلمة نفسها دالة على الكثرة، وتلك هي لغة القرآن الكريم.. قال تعالى:
رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء (1) سورة النساء، ولم يقل: (كثيرين).
وسابعتها: أنه لا يُعْقَل كسرُ قافِ موسيقى إلا في النسب؛ فالخيار بين الفتح والكسر عند شاكر لَغْو، كما أن قوله عن النسب: (بياء غير مشدَّدة) لا يعقل عند الوصل.
***
الحواشي:
(1) انظر التجليات الفنية ص20-21 / ط النخبة ببيروت / الطبعة الأولى عام 2011م.
(2) المصدر السابق ص12.
(3) المصدر السابق ص25-26.
(4) المصدر السابق ص27-28.
(5) الديداكتيكية هي فن التدريس أو فن التعليم، وهي استراتيجية تعليمية تواجه مشكلات كثيرة: مشكلات المتعلم, ومشكلات المادة, أو المواد وبنيتها المعرفية، ومشكلات الطرائق, ومشكلات الوضعيات التعليمية.. مقال بعنوان (مصطلحات تربوية ) لمحمد ميلي طالب / مجلة المركز التربوي الجِهوي بطنجة.
(6) التجليات الفنية ص26.
(7) قال أبوعبدالرحمن: تصحُّ النوايا جَمْعَ كثرة مراعاةً للأصل، وهو (نَوِيَّة) مثل طويَّة تجمع على طوايا، وهذا التصريف لا يفتقر إلى سماع مُدوَّن في متون لغة العرب؛ لأن الوزن ثابت في علم التصريف الاستقرائي.. وأما جَمْعُ نية على (نِيٍّ) في قول النابغة الجعدي رضي الله عنه:
إنك أنت المَحْزُون أثر [ م ]
الحيِّ فإن تنونِيَّهمْ نُقِمْ
- وهو من المنسرح - فذلك ضرورةُ شعرٍ لا سعةٌ في اللغة، والضرورات ضرائر.
(8) رحلةُ البدْءِ والمُنتهى / دار الأبحاث بالجزائر / الطبعة الثانية عام 1431هـ.
(9) التجليات الفنية ص26-27.. ومعنى كلمة (بمثابة) في كلام الدكتورة حسب لغة العرب: (بمكان عزف العود الذي يثوب إليه الناس)، وهذا لا يتناسب مع سياقها، وإنما أرادت اللحن المتفشِّي عند المعاصرين، وهو أن ليل الجدائل شبه عزف منفرد؛ فهذا لا معنى له أبداً عند العرب لا في فصيحهم ولا في عاميِّهم؛ فإن كان ذلك عن لغة أجنبية فليس عندي لغة ثانية أحذقها.
(10) الأوركسترا: هي الفرقة الموسيقية، مجموعة من عازفي آلات موسيقية مختلفة الأنواع - في أغلب الأحيان-؛ لأداءِ عملٍ موسيقي ما.. تحوي مزيجاً من العناصر الصوتية التي تتوافق فيما بينها.. انظر الموسوعة العربية لحسني الحريري.
(11) التجليات الفنية ص28-29.
(12) معجم الأخطاء الشائعة / مكتبة لبنان / الطبعة الثانية عام 1993م.
(13) تصويبات لغوية / دار المعراج الدولية بالرياض / الطبعة الأولى عام 1415هـ.