لقد اهتم الإسلام بالأسرة اهتماماكبيرا وسمى الله عقد الزواج ميثاقا غليظاكما في قوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء:21) ذلك أن صلاح الأسرة مؤداه بالضرورة صلاح المجتمع والعكس صحيح، ومن هنا وضع الإسلام العديد من القواعد التي تضمن سلامة سير الحياة الزوجية إلا أنه قد يعتريها قصور ما أو يشوبها(كوادر) الحياة الدنيا فتتنغص الحياة الأسرية وتضيق الدنيا على سعتها بالزوجين بحثا عن الاستقرارالأسري وصلاح الحال، ذلك أن الاستقرار الأسري مطلب كل نفس سوية على الرغم من أن الخلافات الأسرية أمرلا مفر منه، والأمر المطلوب هو السعي لتجاوز هذه الخلافات سواء كانت من خلال الزوجين أنفسهم دون تدخل احد من خارج الأسرة، أو من خلال تدخل احد المرشدين الأسريين بطلب من الزوجين أو احدهما أو بطلب من القاضي قبل إيقاع الطلاق بينهما، وهي مهمة صعبة وليست باليسيرة ولها تبعاتها العظيمة على الزوجين وعلى الأسرة والأبناء والمجتمع بشكل عام.
لذا لا عجب أن الله - عز وجل - قد رغّب في الإصلاح بين الناس في عدد من الآيات في محكم كتابه وأثنى على من يقوم بذلك طلبا لمرضاته ووعده بالأجر العظيم فقال عز من قائل: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء، آية:114)، كما رغب المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم في إصلاح ذات البين ففي الحديث الذي يرويه أبو داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة. قالوا: بلى. قال: إصلاح البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة).
ومن هنا كان الإرشاد الأسري إحدى هذه الوسائل الإصلاحية في المجتمع التي يحرص عليها العديد من الناس سواء كان من المختصين أم من غيرهم، كما أنه عمل اجتماعي تفاعلي يتواصل فيه الفرد مع المجتمع بشكل ايجابي مثمر، ويمارس فيه دوراً اجتماعياً له أهميته في نفسه وعلى ذاته ومجتمعه الصغير والكبير.
وتُعدُ خدمات الإرشاد الأسري - كعمل منظم - حديثة جدا على المجتمع السعودي، كما أنها مازالت في بداياتها المهنية، ومن هنا تأتي أهمية تناول مثل هذا الموضوع ليلقى من خلاله الضوء على هذه الخدمة التي يحتاجها المجتمع أيما احتياج في مثل هذه الفترة التي تمر بها الأسرة بمتغيرات كبيرة في نوعها وكمها، فضلا عن الإحصاءات التي تتحدث عن تزايد حالات الطلاق في المجتمع، وكثرة تردد الناس على المحاكم لحل المشكلات التي تعترض طريق أسرهم، إضافة إلى ما يمكن للراصد من رصده من خلال الاطلاع على وسائل الإعلام المختلفة حيث تكثر فيها البرامج التي تحاول أن تعالج المشاكل الأسرية وتقديم الحلول لأصحابها، إضافة إلى تزايد الإعلانات عن الدورات التدريبية لكيفية التعامل مع الحياة الزوجية، وكل ذلك يؤكد حقيقة مفادها أن هناك بوادر لوجود عدم استقرار اسري في المجتمعات.
إن المؤشرات تؤكد على أن هناك بوادر لازدهار مهنة الإرشاد الأسري في المجتمع نظرا للتغيرات التي يمرُ بها المجتمع بشكل عام، ثُم الأسرة بشكل أخص، وفي هذا الإطار فإنه نظرا لعدم وجود سياق أسري كبير - كالأسرة الممتدة التي كانت تُحل في سياقها الخلافات والمشكلات - فإن أفراد الأسرة قد يتوجهون إلى طلب العون والمساعدة من الاختصاصيين في مجالات المشكلات والخلافات الأسرية سواء كانت المشكلات عبارة عن مجرد اختلاف في الرأي أو طلبا لرأي علمي محايد أو خلافات تحتاج إلى وجهات نظر قانونية أو مالية أو نحو ذلك وعلى ما يظهر ستنتشر المراكز الاستشارية المتخصصة في شؤون وقضايا الأسرة وستصبح معتمدة من قبل أطرافها لاتخاذ قراراتهم فيها.
ولئن كانت الشكوى من المشاكل الأسرية بهذه الكثرة فإنه يرد هنا سؤال مُلح يحتاج إلى إجابة وهو هل برامج الإرشاد التي تقدم في المجتمع من خلال وسائل الإعلام أو المباشرة توازي هذا الانتشار للمشاكل الزوجية ولحالات الطلاق؟، ثُمَّ هل الممارسون للإرشاد الأسري الآن في المجتمع لديهم القدرة بالفعل على مواجهة هذه المشاكل وفق إمكاناتهم المتاحة ووفق قدراتهم العلمية والعملية؟، ومن هنا تأتي هذه المقالة للتحدث عن قضية جدلية في مجال الإرشاد الأسري وهو من الذي يمكنه أن يقوم بممارسة الإرشاد الأسري؟. والسؤال الآخر هو: هل كل مجتهد حريص قادر على القيام بهذه المهمة؟ أم لابد أن يكون متخصصا في الخدمة الاجتماعية أو علم النفس فقط، وما مدى إمكانية، الاستفادة من الطاقات الراغبة في الإصلاح بين الناس والحريصة عليه، وبخاصة إذا كان ممن تثق فيه الناس دون غيره أحيانا.
ولعل من نافلة القول: إن هناك العديد من الدراسات والتقارير الحكومية الصادرة عن وزارة العدل ووزارة الشؤون الاجتماعية تؤكد التزايد المطرد في المشكلات الزوجية والأسرية وبالتالي تزايد الطلاق في المجتمع والطلاق ظاهرة واسعة الانتشار ومتعددة الأسباب ولها آثار مدمرة في حياة الأفراد والأسرة وهي تشكل تكلفة اجتماعية مرتفعة على المستوى المادي والنفسي والاجتماعي، بالإضافة إلى ذلك فإن معدلات وأسباب الطلاق تدفعنا إلى التوجيه بضرورة وجود مراكز استشارية بإمكانها مساعدة الأسر التي تمر بظروف استثنائية، وذلك لتقديم المساعدة المهنية التي قد تحول دون تفاقم الأمور وتساعد على التقليل من حالات وقوع الطلاق.
ولكن مما فتح الله فيه على الناس وسهله لهم في هذه الأزمنة وجود العديد من المؤسسات الحكومية والأهلية التي تتصدى لحل المشاكل الأسرية، والتي كانت إلى زمن قريب سبياً رئيساً في تصدع أسركثيرة، وتفرق شملها، فيسر الله تلك الأماكن لتقديم تلك الاستشارات والتوجيهات في جو من الخصوصية والستر، وقد كان الكثير من هذه الأسر يتخبطون طلبا لحل مشاكلهم الأسرية، ويتصرفون تصرفاً قد لا يقره دين ولا عقل. فيسر الله من الأسباب ما رفع به كثيرا من الحرج من وسائل اتصال حديثة كالهواتف الاستشارية ومواقع الانترنت.
ولقد حقق الإرشاد الأسري في بعض مناطق المملكة نجاحات لا بأس بها على الرغم مما يحوط هذه المهنة من إشكالات كبيرة وعقبات عويصة في المجتمع ، فعلى سبيل المثال في مدينة الرياض استطاع مكتب الإصلاح في محكمة الضمان والأنكحة أن يتدخل لعلاج عدد من حالات الطلاق ويُصلح بين الزوجين بما نسبته 11.4% من الحالات التي راجعت المحكمة خلال عام 1428هـ.
وهذه النجاحات المتحققة من مراكز الإرشاد الأسري تمّت على الرغم من قلة من يتجه لها ممن يعانون من مشكلات أسرية فقد أظهرت بعض الدراسات أن المسترشدين يلجأون حين حدوث مشكلة إلى الفئات الآتية: الأم أولاً بنسبة 27%، ثُمَّ الأخت ثانياً بنسبة 14.5%، ثُمَّ الصديق ثالثاً بنسبة 14.1% وأخيرا عالم الدين والمرشد النفسي بنسبة 2%، ولابد من طرح تساؤل هنا وهو لماذا تقالّت النسبة جدا عند الذهاب إلى المرشد فلم تبلغ سوى اقل من 2% وفي اعتقاد الكاتب أن من أسباب قلة اتجاه المسترشدين إلى المرشد الأسري قد يكون عائدا إلى قلة وجودهم من جانب، وقد يكون عدم الثقة في المهنة بشكل عام من جانب آخر، إضافة إلى ثقافة المجتمع السعودي تجاه الإرشاد الأسري، بحكم حداثته على المجتمع.
لذا لا عجب أن نجد أن العديد ممن يعانون من مشكلات أسرية في المجتمع يتجهون إلى من يساعدهم لحل مشاكلهم أو يرشدهم حتى وإن كان من غير المتخصصين، ويتضح ذلك جليا من خلال التوسع الكبير في برامج الاستشارات في الواقع وكذلك في وسائل الإعلام بأنواعها أو الانترنت، ومن هنا فلا بد من معرفة الأسباب والعوامل المؤثرة على طلب المشورة والعلاج للمشكلات الزوجية والأسرية, لما لذلك من اثر كبير في إعداد وتنفيذ الخطط المستقبلية لمؤسسات المجتمع المحلي وكذلك المؤسسات الحكومية والأهلية العاملة في مجال الإرشاد الزواجي والأسري.
وتظهر الدراسات أن هناك عددا من العوامل المؤثرة على طلب الإرشاد الأسري وفق مستويات متباينة ومن ذلك: عوامل مؤسسية مثل قلة عدد المؤسسات الإرشادية وبالتالي قلة المرشدين الأسريين، أو ضعف مستوى الخدمة الإرشادية المقدمة من حيث: مستوى المرشد، أو قلة عدد ساعات العمل، كما أن هناك عوامل فردية تعود للمسترشد نفسه مثل: عدم معرفة الجهات التي يمكن الاستفادة منها، أو الخوف أو الخجل من طلب خدمة الإرشاد الأسري، أو التعرض لتجارب وخبرات سابقة سيئة مع مثل هذه المؤسسات الإرشادية، أو عدم القدرة على الحضور لهذه المؤسسات، أو عدم وجود وسائل اتصال، وأخيرا هناك العوامل المجتمعية، مثل عدم ثقة المجتمع بأهمية طلب خدمة الإرشاد الأسري، أو عدم صدق الصورة التي يقدمها الإعلام عن المرشد أو المعالج الأسري، إضافة إلى حساسية المشكلات وعدم قدرة الناس على الحديث عنها، وبخاصة في المجتمع الخليجي، ومن ذلك الخوف من معرفة المعالج اسم الأسرة أو العائلة.
ولاشك أن هذه جملة من العوامل تعوق بشكل عام من الإفادة من الخدمات الإرشادية في أي مجتمع من المجتمعات، وبخاصة حينما يكون هناك خلط بين الإرشاد الأسري مع التوجيه الأسري أو مع العلاج الأسري المتخصص والمتقدم، وكذلك الخلط في مستويات الإرشاد ذاته، وهذا عائد إلى الاعتقاد الذي قد يكون سائدا في بعض المجتمع وهو أن الكل يفهم في المشكلات الاجتماعية، أو الاعتقاد بأن حسن التواصل بين المرشد والمسترشد أو القدرة على التوجيه والنصح والقدرة على الإقناع يكفيان، أو أن الخبرة في الحياة وكبر السن لدى المرشد تغني عن تعلم هذا العلم.
ومن هنا يمكن القول: إنه على الرغم من شهود مجال الإرشاد الزواجي والأسري في المجتمع السعودي توسعاً كبيرا في السنوات الأخيرة سواء على شكل برامج تدريبية، أو مراكز إرشادية ربحية، أو مراكز إرشادية أهلية وخيرية وخطوط إرشاد هاتفي، إلا أن المأخذ عليها أحيانا أنه يشوب هذه الجهود المباركة عدم العمق في النظر للظاهرة الإنسانية وتعقد العلاقات الاجتماعية عموماً، والعلاقات الأسرية والزواجية خصوصاً ، فضلا عن الغموض الذي يكتنف كثيرا من النواحي النفسية لدى الإنسان، وصعوبة التعامل معها مع حتى بعض المختصين في علم النفس فضلا عمن سواهم.
ومما ينبغي استحضاره حين مناقشة موضوع الإرشاد الأسري بشكل عام ضرورة التعرف على مستويات الإرشاد الأسري، فهناك الإرشاد العام وهو الذي يهدف للنصح المجرد والتوجيه عموما، ويمارسه الجميع تقريبا، وهناك الخدمات الإرشادية الأسرية الهاتفية العامة، ويمارسه ذوو تدريب بسيط ومن خلاله يكون التوجيه لكيفية تحصيل الخدمة المناسبة أو إعطاء توجيه عام، وهناك الخدمات الإرشادية المتخصصة، وهذه يمارسها ذوو تدريب متخصص عموما، ويهدف إلى التثقيف والتعليم والتوجيه، وأخيرا هناك الخدمات العلاجية، وهذا النوع يمارسه ذوو تخصص عال، ويهدف إلى تغيير الواقع من خلال العلاج، ويوجد فيه متابعة بشكل مقنن ومنهجي.
وجميع مستويات هذه الخدمات الإرشادية مهمة وضرورية بحسب كل حالة وطبيعة كل مشكلة، إلا أن الملاحظ أن المعاني من المشكلة - المسترشد - قد لا يتجه إلى المتخصص في الإرشاد الأسري، فقد يتجه إلى أي شخص يتوقع منه أن يقدمه له نصيحة تعيد ترتيب أوراقه الأسرية، وهذا عائد إلى أسباب عدة ومنها:
- قلة الكفاءات المتخصصة في التوجيه والإرشاد الأسري، فيمكن القول: إن الطلب يفوق العرض بمراحل كبيرة جدا، وذلك بالنظر إلى مخرجات الجامعات من المختصين مقابل حجم المشاكل الأسرية المنتشرة في المجتمع، وقد يكون هذا عائدا إلى حداثة دخول علم الإرشاد عموما والإرشاد الأسري خصوصا إلى الجامعات، مع ملاحظة أن الكثير من المتخرجين من أقسام: علم النفس، والاجتماع والخدمة الاجتماعية يتجهون إلى قطاعات عمل أخرى غير العمل الإرشادي، وبخاصة في قطاع التعليم لما يحتويه من مزايا إدارية ومادية لا تتوفر لغيره، وقسم آخر من الخريجين يتجهون إلى وزارة الشؤون الاجتماعية للعمل في الدور الاجتماعية لما توفره لهم من مزايا مادية وبدلات نقدية، كما يتجه شريحة ليست بالقليلة إلى القطاع الصحي، وبخاصة في الآونة الأخيرة وبعد تطبيق الكادر الصحي على الاجتماعيين وبالتالي الحصول على مزايا مادية. ويصاحب كل ذلك عدم وجود قنوات تحتوي هؤلاء الخريجين للعمل في الإرشاد الأسري في المحاكم أو غيرها من القطاعات الاجتماعية في المجتمع التي تحتضنهم وتجعلهم يباشرون هذه المهمة الإنسانية السامية والخيرة.
- ثقة أفراد المجتمع عادة في أصحاب العلم الشرعي، وبخاصة أنهم الأبرز في التصدر لهذه المشكلات الأسرية وقرب الناس منهم وقربهم من الناس من خلال الإمامة في المساجد، أو الخطابة أو التصدي للفتوى في الجوامع، بالإضافة إلى سهولة الوصول لهم والتواصل معهم باعتبار تيسر الالتقاء بهم في المسجد أو الجامع.
- ضعف المستوى المهني عند بعض المتخصصين من خريجي أقسام علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية وعلم النفس، وهذا الضعف ليس بالضرورة عائدا إلى ضعف تأهيلهم أو ضعف الجامعات التي تخرجوا منها، بل هو عائد بالدرجة الأولى إلى عدم الممارسة المهنية والميدانية المباشرة في المجتمع بسبب عدم وجود مؤسسات اجتماعية تباشر الإرشاد الأسري تعمل على تدريبهم وجعلهم ينمون مهنيا من خلال الممارسة العملية، أو بمعنى آخر عدم إعطاء صورة مشرقة لأفراد المجتمع من قبل بعض المتخصصين في الإرشاد الأسري بسبب أخطاء فردية أساءت لأصحاب التخصص بشكل عام. وقد يكون هذا عائدا إلى عدم معرفة بعض الممارسين للعمليات الإرشادية للعديد من المفاهيم والنظريات الإرشادية وعزز ذلك عدم وجود محاضن للتدريب الميداني خلال الدراسة، وعدم وجود محاضن إرشادية تمكنهم من العمل والتدرب والنمو كما في المهن الأخرى.
- من المعروف أن أول التخصصات دخول في مجال الإرشاد الأسري هم المختصون في علم النفس وقد افتتحت عيادات إرشادية ومراكز أسرية في بعض دول الخليج، ولكنها اصطبغت بطابع تخصص أصحابها وهو تخصص علم النفس، ولا يخفى الموقف الاجتماعي العام من الطب النفسي، والعيادات النفسية، والطبيب النفسي، والصورة الذهنية لدى عامة الناس عن كل ما يمت إلى علم النفس بصلة والخوف من أن يوصم الشخص من قبل المجتمع بأنه مريض نفسيا إذا راجع هذه المراكز الإرشادية، وهذا - في اعتقادي - أوجد نوعا من الإحجام والعزوف عن هذه المراكز الإرشادية ذات الصبغة النفسية على الرغم من قلتها في المجتمع عموما.
ولاشك أن هذه هي الأسباب الرئيسية وغيرها من الأسباب التي سهلت دخول غير المتخصصين مجال الإرشاد الأسري، مما أدى إلى اختلاط المفاهيم والعمليات الإرشادية لدى الكثير من المرشدين سواء المختصين أم غير المختصين، وتحولها إلى عمليات نصح وتوجيه عام فقط.
إن أمانة النصح لعموم المرشدين الأسريين تقتضي عددا من الشروط الواجب توافرها فيمن يتصدى لهذه المهمة الإرشادية أو الإصلاح الأسري، ويمكن إجمالها في الجوانب الآتية:
1 - العلم بحال المسترشد، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولابد لمن يتصدى للإرشاد أن يكون عنده حد أدنى من العلم يمكنه من إرشاد المسترشد، ومعرفة المشكلة وإدراكها إدراكاً جيداً.
2 - الإخلاص واستحضار النية لمن يدخل هذا المجال الحساس، فإن مما يعين على كثير من الأعمال استشعار الأجر من الله وتصور أهمية تفريج الكرب وحل الإشكال، يقول صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) (رواه مسلم).
3 - مراعاة التخصص، فإن من الإشكالات التي قد تقع أحياناً من قبل بعض من المرشدين الأسريين هو الدخول في غير تخصصهم، وهناك تداخلات في بعض المشكلات قد يخفى بعضها على المرشد فمن الشجاعة أن يقول المرشد للمسترشد أنني أقول لك رأيي في هذا الجانب ولكن الجانب الآخر يحتاج إلى مختص شرعي أو نفسي.
4 - امتلاك العديد من المهارات المهنية والحياتية - ولو في حدها الأدنى - ومن ذلك: مهارات التواصل اللفظي، و مهارات ملاحظة السلوك اللفظي وغير اللفظي، ومهارات الاستماع والإنصات، ومهارات تكوين العلاقة الإرشادية والمحافظة عليها، ومهارات التعاطف وتوفير المعونة النفسية، ومهارات توجيه الأسئلة وطلب المعلومات، ومهارات تقديم البدائل والاقتراحات، ومهارات التشجيع، ومهارات تقديم النصح.
5 - أن يحرص المرشد على تطوير نفسه، فلا شك أنه يعرض للكثير من المرشدين جملة من المسائل والإشكالات الاجتماعية والنفسية، قد يحتاج في بعضها إلى مراجعة وإلى بحث عن وسائل وطرائق جديدة تناسب المشكلة وتقتضيها طبيعتها، كما يسعى لحضور دورات ولقاءات ومؤتمرات للاستزادة من هذا العلم.
6 - المحافظة على سرية المعلومات، فالكثير من الناس قد تبقى المشكلة تجول بداخله وتقلقه ولا يستطيع عرضها خوفاً من إفشائها ويخشى كل الخشية أن ينشر ولو طرف منها، ولذا فعلى المرشد طمأنة المسترشد إلى سرية هذه المعلومات، وينبغي للمرشد ألا يتحدث بهذه المشكلات في المجالس العامة والمجامع.
7 - وحين الممارسة العملية لابد من تحقيق - الحد الأدنى على الأقل - من شروط النصيحة الإرشادية، ومن ذلك أن تكون النصيحة موجهة نحو حل مشكلة المسترشد أو التقليل منها، كما يجب أن تكون مبنية على أساس علمي، وأن تكون قد تم التفكير فيها بعناية، وأن تكون متوافقة مع قدرات المسترشد النفسية وظروفه المادية والاجتماعية، وأن تكون قابلة للتطبيق، وأن تكون ضمن الإطار العام المقبول بحيث لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، ولا تتعارض مع قيم وأعراف المجتمع، ولا تتعارض مع مبادئ مهنة الخدمة الاجتماعية.
8 - الالتزام بالقيم الأخلاقية والمواثيق الأخلاقية لمهنة الإرشاد الأسري المعتبرة في هذا المجال و احترام حقوق عملائه وبذل كل ما في وسعه لضمان تقديم الخدمات اللازمة لهم. والعمل وفق المعايير المهنية.
إن الواقع يحكي الآن أن هناك العديد من التجاوزات لهذه الشروط الواجب توافرها في الإرشاد الأسري أو عدم القدرة على تحقيقها بالفعل، وذلك عائد إلى الأسباب التي سبق ذكرها ولكن السؤال الذي يجب أن يُطرح بقوة هو (هل من الحكمة منع أي ممارس مجتهد حريص؟، أم الحكمة تقتضي التعامل بعقلانية وتجاوب مع الواقع وعدم التحليق في سماء المثاليات؟، بحيث يتمّ الاستفادة من كل حريص راغب في الممارسة ولكن بعد استيفاء بعض الشروط والتأكد من تحققها، والعمل على تنفيذ ما كان غير موجود من الفقرات السابق ذكرها، وهي مهمة ليست بالسهلة ولكنها ضرورية لمواجهة حاجة الناس في ظل ثلاثة أمور مهمة يجب أن يضعها المختصون في علم الإرشاد الأسري عموما، وكذلك المؤسسات الإرشادية سواء الحكومية أم الأهلية أم الخيرية نصب أعينهم، وهي:
1 - كثرة المشاكل الأسرية في المجتمع وتزايد عددها سنة بعد أخرى وفق ما تظهره الإحصاءات الرسمية.
2 - قلة المختصين من خريجي الجامعات ممن يحمل شهادة الخدمة الاجتماعية أو علم النفس، فضلا عن عدم وجود تخصصات تُعنى بالإرشاد الأسري.
3 - ثقة الناس متوافرة في أصحاب العلم الشرعي وبعض كبار السن أكثر من توافرها في خريجي أقسام الاجتماع والخدمة وعلم النفس، والواقع يحكي ذلك.
ومن هذه الحقائق الثلاث يجب أن يتمّ التعامل مع موضوع الإرشاد الأسري في المجتمع السعودي في هذه المرحلة، وينبني على ذلك مدى التشدد في التخصص وقصر الممارسة على المختصين فحسب، مع ضرورة التشديد على ألا تكون هذه الحقائق عامل إخفاق للإرشاد الأسري في المجتمع.
ومن هنا قد يرد سؤال وهو: هل يعني هذا القبول بكل من هب ودب لممارسة هذه المهمة السامية وهي الإرشاد الأسري؟، بالطبع الجواب القاطع هو النفي الشديد، ولكن لابد من نظرة مرحلية تتعامل مع الواقع وتراعي ظروف الزمان والمكان حيث يمكن قبول هذا الأمركمرحلة مؤقتة ولكن بشرط وضع حد أدنى من الضوابط لمن يريد أن يمارس العملية الإرشادية، ومن ذلك اشتراط مستوى عمري معين ومستوى تعليمي معين، وحضور بعض الدورات الأساسية في الإرشاد الأسري ونظرياته وطرائقه وآلياته، والسعي للتثقيف الذاتي المبرمج، مع مراعاة معرفة الحدود التي ينبغي أن يتحرك فيها المرشد الأسري، فلا يمد خدماته إلى المستويات العلاجية التي تتطلب تدخلا علاجيا وجلسات نفسية وعلاجية.
إن من الأهمية بمكان أن يستوعب كل من يمارس الإرشاد من غير المتخصصين أن الإرشاد الأسري علم واسع يدرس العلاقات ومشكلاتها وبالذات الأسرية، وأن هناك تدريبا مهنيا في هذا المجال ضروري للغاية حتى للمتخصصين، فالمتطوعون والمجتهدون لهم دوركبير لا يمكن تجاهله في هذا المجال، ولكن لابد من التدريب لتقوية القدرات والمهارات.
كما أن نجاح المرشد الأسري في عمله وإنجازه الأهداف العملية الإرشادية يتوقف على ما يتوفر له من أدوات وأجهزة وإمكانيات تساعده في تنفيذ العمليات المهنية بطريقة منظمة وسليمة، فلا بد من وجود مكتب مهيأ بالشروط المعروفة، وتحديد أوقات محددة وتنظيم ملفات للمسترشدين وتوفير البيئة المكانية المناسبة للإرشاد الناجح.
وختاما لكل ذلك أرى من الحكمة الاجتماعية وفي ظل معطيات الواقع وظروفه أن يتمّ التعامل مع هذه الإشكالية وهي (الإرشاد الأسري بين اشتراط التخصص أو قبول الخبرة) في ظل ظروف المجتمع العلمية والثقافية، ومواطن ثقة الناس والأخذ بسياسية السير خطوة بخطوة وعدم التفريط في طاقات يمكن أن تخدم المجتمع بشكل أو بآخر، والسعي لتعديل ما يمكن تعديله في هذا المجال.
وختاما هذه بعض التوصيات راجيا أن يكون فيها النفع لمجال الإرشاد الأسري في المجتمع السعودي ومن ذلك:
1 - التوسع في البرامج الجامعية المتخصصة في الإرشاد الأسري لمواجهة احتياج المجتمع من المختصين في مجال الإرشاد الأسري, وإيجاد برامج دبلومات متقدمة في مجال الإرشاد الزواجي والأسري للممارسين الآن من غير المختصين.
2 - التوسع في افتتاح مراكز للإرشاد الاجتماعي والأسري سواء الرسمية منها أو الأهلية أو الخيرية ،لتوسيع الاستفادة من هذه الخدمات والمساهمة في زيادة الوعي بكيفية التعامل الأمثل مع ضغوط الحياة المختلفة.
3 - وضع اختبارات ومقاييس يخضع لها كل ممارس رسمي للعملية الإرشادية، مع ضرورة السعي لإصدار رخصة مهنية للمؤهلين لمزاولة مهنة الإرشاد الأسرى، مع تبني دورات ومحاضرات وحلقات نقاش ترفع من مهنية الممارسين للعمليات الإرشادية الحاليين من غير المختصين.
4 - ضرورة التعاون المهني والعلمي بين المختصين في الخدمة الاجتماعية و علم النفس وعلم الاجتماع والشريعة و غيرهم من المهتمين والممارسين لعملية الإرشاد الأسري لرفع مستوى الأداء والجودة في تقديم الخدمة، لتحقيق اكبر قدر من ثقة المسترشدين في المهنة وأهلها، والممارسين لها.
5 - أهمية تفعيل خدمات الإرشاد الأسري في المحاكم الشرعية و الاستعانة بالمختصين في الجانب الاجتماعي والنفسي وغيرهم من المؤهلين للمساعدة في احتواء الخلافات والنزاعات الأسرية.
6 - التنوع في طرق تقديم خدمات الإرشاد الأسري بحيث تشمل إيجاد مكاتب للإصلاح الأسري عبر المقابلة الشخصية
و الإرشاد الهاتفي، وضع الضوابط اللازمة لتطوير عمل الممارسين لعملية الإرشاد الأسري.
***
المصادر
الإرشاد الزواجي والأسري بين المهنية والاجتهاد، عمر بن إبراهيم المديفر.
الإرشاد النفسي والاجتماعي، صالح بن عبد الله أبو عباة وعبد المجيد بن طاش نيازي.
الجوانب الاجتماعية والثقافية المؤثرة على طلب خدمات الإرشاد الأسري، عبد الله بن سعد الجاسر.
الخصائص الاجتماعية للمسترشدين: دراسة ميدانية، عبد الله بن ناصر السدحان.
المركز الخيري للإرشاد الاجتماعي والاستشارات الأسرية، منيرة بنت عبد الرحمن آل سعود.
مقومات الإرشاد من الناحية الشرعية، محمّد بن عبد الله الخضيري.
(*) الوكيل المساعد - وزارة الشؤون الاجتماعية
ansadhan@gmail.com