لعبت الصحافة منذ أن انتشرت في أعقاب الثورة الفرنسية دورًا مهمًا في التأثير على أوضاع المجتمعات بما تحويه من نقاشات سياسية، وتبدلت الأدوار في مراحل كثيرة، فصار الصحفيون يمارسون السياسة والسياسيون يمارسون ..
..الصحافة، وبمرور الوقت تضخمت الحرب بين رجال السياسة ووسائل الإعلام حتى إنها في إحدى جولاتها أسقطت مارغريت تاتشر المرأة الحديدية ببريطانيا.
ولكن في النهاية يظل الإعلام سلعة مثلها مثل السلع الأخرى، تخضع للسوق الذي يحدد أسعارها، لذا ينبغي أن تلبي صناعة وسائل الإعلام نفس معايير العائدات المطبقة على السلع الأخرى.
وأمام هذا الوضع يتفق كثيرون على أن الصحافة المكتوبة في أزمة، مع العلم أن المؤسسات الصحفية في معظم البلدان الأوروبية والشرق الأوسط هي في المقام الأول صحف وطنية، ويجادل البعض أنه في حالة اندماجها فسوف تتكون مؤسسات إعلامية كبيرة قادرة على التنافس برغم من وجود تحديات عدة منها عدم ثقة القراء ومنافسة القنوات التلفزيونية وشيخوخة فئة القراء وارتفاع تكاليف التشغيل، وكل ذلك تزامن مع انتشار النشر الرقمي وعدم اهتمام الشباب بكل ما هو مكتوب، والتخلي عن الإعلام كوسيلة مفضلة للإعلانات، ما أدى إلى تقليص المصدر الرئيس في الإيرادات، وكل هذا يكفي لتعريض بقاء الصحف المكتوبة للخطر.
ومع الثورة التقنية وصل نمط صناعة ونشر الإعلام كما عرفناه منذ قرابة قرنين إلى نقطة تحول ولن يعود إلى ما كان عليه، ولم يُعدُّ الأمر يتعلق بإجراء إصلاح من أجل الاستمرار كما كان، لكنه يتعلق بإعادة الاختراع.
وليس معنى هذا الكلام بالطبع أن تغلق جميع الصحف أبوابها خلال الأيام القادمة، ولكن يتوقع الكثير من المختصين أن مستقبل الإعلام المكتوب دخل مرحلة شديدة التشويش، لذا فتحول الصحف من الطباعة على الورق إلى الطباعة على الويب يجب أن يناقش بشكل جدي، حيث بات المردود على المواقع الإخبارية على النت غير مجدٍ.
ومقولة أن البعض لا يتخيل عالمًا بدون صحف هي مقولة لا تحجب الحقيقة ولا تعفي من حجم المشكلة والتشبث بالأوهام وعدم مناقشة المشكلة من جميع جوانبها لإيجاد منافذ ومخارج جديدة، ولكي يمكن حل أي مشكلة يجب أن نجاهر بالحقيقة عارية، بعد ذلك لا بد من الاعتراف بالخلل بعد التأكَّد منه ثم تسليط الضوء عليه ومناقشته من جميع جوانبه، ليصبح الحل بعد ذلك متوفرًا لمن أراده.
ولعلنا نستعرض بعض آراء مشاهير عالم الاتصال الحديث حول الصحافة ومستقبلها، فالمدير العام لشركة “ميكروسوفت” ستيف بيلمير يقول: “خلال السنوات العشر المقبلة، سيتغير عالم وسائل الإعلام والاتصال والإعلانات رأسًا على عقب ولن تُستهلك أي وسيلة إعلامية إلا على الإنترنت. لن تعود هناك أي جريدة أو أي مجلة على الورق...”، أما مؤسس شركة “آبل” الراحل ستيف جوبز فيؤكد أنه “من غير المفيد الاستثمار في صناعة الكُتب الإلكترونية ووسائل القراءة الإلكترونية الأخرى، لأنه قريبًا لن يعود هناك من يقرأ”، ولم تأتِ هذه الشهادات وغيرها من منافسين للصحافة الورقية فقط، بل نلمس هذا المذهب عند المختصين بشؤون الإعلام، فهذا أفضل محللي وسائل الإعلام الأمريكية فين كروسبي يؤكد أن “أكثر من نصف 1439 صحيفة يومية في الولايات المتحدة الأمريكية لن يكون لها وجود في 2020م، سواء على الورق أو على الويب أو على شكل جريدة إلكترونية”.
وعلى رغم محاولة البعض التقليل من المخاطر فإن التكاليف في تصاعد والمداخيل في انخفاض، فضلاً عن أنه مع المتصفح الرقمي يذهب القارئ مباشرة إلى المادة التي تهمه دون تجاهل أي موقع أو صحيفة كانت. كما ينطوي عالم الأخبار في عصر الإنترنت على سطحية المعلومات مع قليل من الحقائق وكثير من التعليقات، حتى وصل الحال بصحيفة عريقة مثل كريستيا ساينس مونيتر في ذكرى عيد ميلادها المائة إلى إيقاف نسختها الورقية.
ولعل صحيفة الفايننشال تايمز تعد الاستثناء الوحيد، حيث واصلت صعودها على المستوى الدولي الذي يمثل نصف المبيعات على بالرغم من أن الكثير من الصحف تبيع الصحف والمجلات بخسارة لكي تحقق أرقام مبيعات عالية وتحصل على أسعار أفضل من وكالات الإعلانات، وعلى كلٍّ فخلال الفترة المقبلة سوف تصيغ آليات السوق قوانين تلك الصناعة بعد أن تهدأ العاصفة وينتصر الأقوياء وتكون قد اختفت الإعلانات الصغيرة التي كانت تمثل المورد الأساسي للدخل لتلك الصحف. وهذا الضرر لم يتوقف عند الصحف المكتوبة فقط، بل لحق أيضًا بالمحطات التلفزيونية ومواقع الإنترنت، إذ لا يشاهد الـ12 مليون زائر شهريًا إلا صفحة العناوين الرئيسة على موقع النيويورك تايمز، وأصبحت شركة جوجل أكبر وكالة إعلانات في العالم، حيث أصبح الكثير من الصحف يتعاون مع جوجل، فالصحف تقدم المادة الأولية المتمثلة بالخبر، وجوجل يقدم خبرته عبر محركات البحث. إن وصول سلطة وسائل الإعلام إلى ذروتها قد توافق مع دخول وسائل إعلامية أخرى كالتلفزيون وشيخوخة الأنظمة السياسية، كما أن مصداقية الصحف نفسها قد حل محلها الشك والريبة إلى أن فقدت مصداقيتها لما تقدم من معلومات مغلوطة ومبتذلة، حيث ولى زمن سلطة وسائل الإعلام، وأصبح الكثير من الشباب يعدُّ ما تقدمه من أخبار مهمة بنسبة لهم تسبب لهم الإحباط والضغوط النفسية، وهم بالتالي يفضلون البقاء بعيدًا والدخول في حوار على المسنجر أو مواقع التواصل الاجتماعي. كما أصبح الجميع صحفيين ومحللين يتواصلون مع المسؤولين وكبار الفنانين والسياسيين بدون وسيط.
من هذا العرض نخلص إلى أن ديمقراطية الإنترنت فرضت فرزًا للإعلام من جهة بمعلومات غنية للأغنياء منتقاة ومنظمة ومحققة، ومن الجهة الأخرى معلومات فقيرة للفقراء مجانية وسريعة ومكررة لكنها آلية وخاضعة للعمليات الحسابية لأباطرة الإنترنت الذين يقدمون خدمات مجانية تسمح لهم بتسجيل بيانات كل مستخدم للشبكة وتستشف ما يبحثون عنه ومن ثم تحقيق المكاسب.
إنها تفاعلات جذرية جمّة يمر بها عالم الإعلام الذي يتغير نحو آفاق أخرى قد تصيب بالذعر، وهنا على الصحافة في المملكة التي تواجه الكثير من التحديات والضغوط، الأخذ بزمام المبادرة ومحاولة تقديم خدمات إعلامية متخصصة عن المملكة وتقديم خدمة مضافة، فالمستقبل قاتم ويحق لأصحاب الاستثمارات الإعلامية أن ينتابهم الذعر.
tfrasheed@hotmail.com