كان المنطلق بعد صلاة العشاء من مسجد الحي الذي يسكنه محاوري لأبدأ تنفيذ زيارة سبق الوعد بها منذ أشهر، وأثناء خطونا لمنزله الذي سأزوره لأول مرة كان يحدثني أن هذا المسجد بناه الشيخ سعد وذاك المسجد الذي ترى منارته شمالاً مِنَّا بناه الشيخ أسعد وذاك الذي في الجنوب ذو المنارة المميزة بناه الشيخ الباذل سعيد، أما ذاك الشرقي ذو المعمار الإسلامي البديع فقد بناه الثري مسعود، وهذه الأسماء رمزية لمن بذلوا وعمروا المساجد تلك فالموضوع لا يخص الأسماء بقدر ما يركز على الأفعال، سألته: أكنت تعرفهم أو أحدهم ولك عليهم دالة أو ميانة، قال نعم، قلت: هداك الله؛ ألا كنت ناصحاً ومعيناً وداعياً للاكتفاء باثنين من أربعة في حيّز مكاني يكفيه مسجد واحد، وتحويل المبالغ المتوفرة إلى مشروعات خيرية لا يقل أجرها ولا تنقص أهميتها عن أجور المساجد؟! انتفض وغضب واحتدّ في ردوده، وكاد العشاء الذي انتظره أن يلغى لولا لطف الله وتدخل أحد الأصحاب المرافقين له وتهدئته، وحين دخول مجلسه هدأ روعه لأننا في ضيافته والكريم اللبيب مثله لابد أن يعود للحق وإلى عرف العرب والمسلمين في أدب الاستقبال وحسن الضيافة، وبعد أن استأنس بتناولنا القهوة، لاطفنا جميعاً بمحاولة العودة لنقاش موضوع تكاليف عمارة المساجد فيما زاد عن الحاجة في الأحياء وصرفها لما هو أهم مما تتطلبه أحوال المجتمع، سألني: ما هي أوجه الصرف في نظرك؟ أجبت: إنها كثيرة وملحة واحتاجها أنا وأنت وابني وابنك والحي كله والمجتمع بأسره، ومنها: مساعدة أبناء الأقارب و(غيرهم) على الزواج واستئجار الشقق لسكنهم فيها إكمالاً لدينهم وإحصاناً لفروجهم وجعلهم أعضاء صالحين في مجتمعهم، والعناية بالأرامل والأيتام وتفقد شئونهم وفي ذلك صور راقية من التكافل الاجتماعي الذي حث عليه الدين كما حث على عمارة المساجد والعناية بها، والأرملة واليتيم عناصر اجتماعية يلزم الاهتمام بها أكثر من الغني، وهناك ذوو الاحتياجات الخاصة ومرضى الكلى والسرطان وغيرهم ممن يحتاجون لحجوزات وانتظار لعلاجهم، ففي توفير الأجهزة ودعم مراكز العناية بهم أجر عظيم لا يقل شأناً عن مشروعات بناء المساجد، فأوجه الخير كثيرة وطرقها واسعة ممهدة، ولن يكلفنا الأمر إلا أن نفتح العيون والأذهان نحو آفاق أرحب لنفكر في خدمة المجتمع، وأن نلغي قيوداً سيطرت على مفاهيمنا وحصرنا بسببها أوجه البذل على قنوات محدودة حتى فاضت مشاريعها عن الحاجة وتحلنا لتكرار تلك المشروعات مع شيء من المباهاة والبحث عن التميز فيها لاستنفاد المبالغ المرصودة لإقامتها، على حساب مجالات مهمة أخرى تنتظر من ينفذها ويفيد منها من هم بأمس الحاجة لها، لا سيما مع تطور وتشعب الحياة العصرية ومستجداتها ما يحتم مواكبة ما يلزم من الخدمات والتطوع لتوفيرها للمحتاجين، وهذا منعطف حضاري مهم إذا تضافرت جهود الباذلين مع جهود الدولة في تحقيقه، وألا نركن إلى مفهوم أن الدولة هي المعنية بهذه الحاجات، والجواب: إذن هي أيضاً تبني المساجد حسب الدراسات والحاجة إليها، فما الداعي لقصر جهودنا على المساجد وترك أمور تدعو لها الحاجة وهي في صلب العمل الخيري التطوعي.