في عصر التواصل المباشر عبر الشبكة الفضائية اختفى مقص الرقيب واختفى معه الشعور بحس المسؤولية الأدبية عما ينشر ويبث.. واختلفت لعبة الحوار.
أتابع في التويتر والفيسبوك والمقابلات التلفزيونية المباشرة ما يسجله المشاركون حول الآراء المتخالفة والأحداث والمواقف وحتى الأشخاص؛ واستغرب كيف ينحدر موقف «متعلمين» إلى استخدام أقذع مفردات اللغة في التخاطب عندما يختلفان في الرأي. وأسأل نفسي هل كانت اللغة ستطلق على عواهنها لو كان هناك احتمال لمقاضاة المتحدث عما يقول؟
في الفيسبوك والتويتر يحتمي الكثيرون بالمسميات المستعارة والصور الرمزية لإخفاء وحماية هوياتهم الحقيقية ثم يطلقون لأنفسهم العنان في النقد والتجريح والسب والتحريض والتأجيج. وأتساءل أحيانا هل كانوا سيعبرون عن ما يعتمل في نفوسهم من السلبيات مباشرة لولم يكونوا مستترين بهذه الأقنعة الواقية؟
أما المقابلات التلفزيونية المباشرة التي يتواجه فيها طرفان أو أكثر فقد فضحت هشاشة بعض من قدموا أنفسهم وأنفسهن كرموز تمثل المجتمع وتعبر عن آرائه ؛ فصدمتنا بعض اللقاءات على الهواء بسطحية الفكر وانعدام الالتزام بأدبيات الحوار.. وربما لو كان الطرفان وجها لوجه لانحدر الأمر إلى تبادل اللكمات الفعلية وانتهى الحوار أو الحضور بقضية جنائية.
ماذا يحدث؟ هل هو استهانة بحضور المتلقي وضرورة احترام وجوده قارئا ومستمعا ومشاهدا ومتابعا على الخط.. أم أننا فقدنا فعلا تمييز معنى حرية التعبير؟ أم أن التصرف كان دائما بهذا الإسفاف من قبل ولكننا الآن نطلع على كل الاقترافات بسبب التقنيات الحديثة؛ من تسجيل الحوار إلى كاميرا الموبايل إلى اليوتيوب الذي يذيعها على الجميع؟.
تابعت قبلها النقاش الدائر حول حرية النشر في الوسائل الورقية والفضائية والإلكترونية وعلاقتها بالتصاريح والرقابة الرسمية. ووجدت في المحتوى والتعليقات مطالبة بالمزيد من التشديد من البعض, ومطالبة برفع سقف حرية التعبير عاليا من البعض الآخر.
هل تعني حرية التعبير أن تكال اللكمات اللفظية تحت الحزام وبلا تعقيم فتنتشر الرائحة في كل المحيط المتابع؟
من متابعة السقطات -التي تنشرها الشبكات وتتوالى حولها التعليقات كالغسيل القذر - هناك ما يبرر منع البعض من الكتابة أو الخطابة حين يساء استخدام المنابر الإعلامية للقذف أو للتأجيج.
شخصيا حين تطفح القضايا المصيرية إلى سطح النقاش الإعلامي أجدني أسأل نفسي: لو كنت المسؤول عن اتخاذ قرار بشأن هذه القضية المختلف عليها فأي قرار أتخذ بشأنها.. ولماذا؟ لابد أن يكون القرار سليم الجذور وإيجابي النتائج فلا يضر المجموع من حيث يجب أن ينفع. والعبرة ليست بمظهرية النتائج السريعة بل بالتداعيات المستقبلية وتوابعها. لست مع إطلاق الساحة بلا تقنين, لتمسي حلبة ملاكمة أو مهرجان سباب وإسفاف أو تماد من التعبير عن الرفض إلى التحريض المعلن أو المبطن على الحرق والتدمير. لكل فعل حدود منطقية وبعدها تنتهي حدود الحرية وندخل في التجريم والتعدي على الآخرين. فماذا سنفعل للعودة بساحة الحوار إلى التوازن المطلوب من كل من يعتبر نفسه أهلا لقيادة الرأي العام؟ وكيف يمكن تنظيف الساحة من فضائح المجلجلين بأصوات وشتائم بأهداف خبيثة؟ خاصة وأنه في عصر التواصل المباشر عبر الشبكة الفضائية اختلفت لعبة الحوار, ولم يعد مقص الرقيب فعالا في إبقاء المعبرين عن آرائهم في حالة توازن بعيدا عن الانفلات.