لم تطأْ لي قدمٌ أرضَ العجائب (أمريكا) منذ صيف عام 1997م، وكنتُ حتى ذلك الحين أشدُّ الرحال إليها مرةً كل عام تقريباً لغايات مختلفة كالمشاركة في مؤتمر أو ندوة أو للسياحة مع أسرتي، وفي كل مرة، كنت أتعلم منها وعنها أموراً جديدة، ثم أقارنُ بعضَ ما سمعته وما شاهدته ببعض ذكرياتي في لوس انجلوس في الأيام الخوالي، خلال فترة الدراسة الجامعية وما بعدها التي انتهت في عام 1970م، فيشدُّني العجبُ ويُدْهشني في آن، وكأنّ غيابي عن تلك البلاد دام عقوداً!

إنّ أمريكا بحق (عالم جديد) لا يبقَى على حالٍ واحد، سِوَى بعض الممارسات السياسية المألوفة، وذاك موضوعٌ آخر، وهي تتغير بوتيرةٍ مذهلة في كثير من ضروب الحياة وفنونها، وأساليب العيش فيها، ومهما تباينت الآراء حيالها، ميْلاً إليها أو نفُوراً منها أو تحفَّظاً عليها، بسبب مواقفَ معينةٍ سلباً كان ذلك أو إيجاباً، إلا أنّ هناك أغلبيةً كبرى من البشر يُضْمرون أو يظهرون لها إعجاباً يتخلّله العجبُ، ممّا يشاهدونه أو يسمعون عنه أو يقرأونه، من تغيّرات مذهلة، وخاصة في المجالات العلمية والاقتصادية والفكرية، وغير ذلك من مظاهر الحراك الإنساني.

* أردتُ بهذه التوطئة الموجزة أن أمهّد لطرح جزءٍ من خواطر تأملية كنت قد دوّنتُها عن أمريكا خلال آخر زيارة لها في سبتمبر من عام 1997م، أخترتُ لقرائي الكرام منها الفقَراتِ التاليةَ حيث وصفتُها بأنها (مخلوق) عجيبٌ و(قارة) من الأمم، جمعها شتاتُ الفقر والفَزع، فهاجَرتْ إليها أفواج لتُحيل فزعَها أمناً وفقرَها ترفاً وجهلَها علماً!

* وهي (خلطة) عجيبة من الخَلْقِ والعَاداتِ والقِيم يحتشد على بساطها الملايينُ من مختلف المِلَل والأعْرافِ والثقافات. يأتي إليها المرءُ أولَ مرةٍ فيحسب أنه لن يغَادَرها أبداً، ويَرحلُ عنها.. فيظن أنّه لن يعودَ إليها أزلاً!

* يبهرُ الزائرَ لها إنجازُها الحضاريُّ، وتفوقُها العلمي، واحترامُ إنسانها لإرادة الجماعة وسلطة القانون! لكنه يُصدم في الوقت نفسه بشيءٍ من (أميّة) شارعها السياسي والثقافي حيال كثيرٍ من الشعوب والحضارات القابعة وراء المحيطيْن العملاقيْن المجَاوريْن لها شرقاً وغرباً، سوى بعض (المعلومات الفلكلورية) عن هذا الوطن أو ذاك، ولذا، بات إنسَانُها رهينةً لهُواةِ السياسة وحُواة المصَالح، وغَدَا مرتعاً لفكْرِ ومكْرِ جمَاعاتِ الهوى السياسي، الذي لا تصبُّ كل غاياته في صالح أمريكا!

* أما العربُ في أمريكا ومثلُهم المسلمون المهاجرون منهم والمستوطنون هناك فوا أسفاه عليهم! يفْترشُون رصيفَ الشارع السياسي، وغيرُهم يركض في مساراته ويشْقَى، تحسبُهم جميعاً وقلوبُهم شتَّى، يتقاسمُهم الخُلْفُ من بين أيديهم ومن وراء ظهورهم.. حتى أضْحَوا (شعوباً وقبائل) لا يكاد يَلقىَ بعضُهم بعضاً إلاّ في بعض المناسبات اليتيمة، كعيدٍ ونحوه، وقد يختصمون ويصطلحون كلَّ يوم.. ألفَ مرة! ولذا، فَشلتْ ريحُهم في (المزاد) السياسي الأمريكي!

* الكل يتذكر، ومنهم كاتبُ هذه السطور، كيف تعَامل بَعضُهم مع محنة الخليج الثانية في مطلع التسعينات الميلادية، فآزر فريقٌ منهم الظالمَ ضد المظلوم! نسُوا أن التاريخَ لا يُمِهلُ ولا يَنسى! وأنّ الناسَ وحدَهم هم الذين يُهْمِلون التاريخَ وينسَونَه!

قال لي أحدُهم من جذورٍ آسيوية أثناء اللقاء بـ(جاليته) في واشنطن إبّان كارثة احتلال الكويت، وكان يتحدّثُ بلهجةٍ تَقْطرُ استعلاءً وغروراً، منتقداً تدخّلَ (بلاده) أمريكا لطردِ المحْتل من الكويت، قال: لماذا (تستعينون) بهذه البلاد، ونَعتَها بأوصافٍ (أنْأى بقلمي) عن ذكرها، فسألتُه بدوري: (ما الحل في ظنك؟ ثم وهو الأهمُّ، إذا كنتَ (تَصِمُ) بلادَك الجديدةَ بهذه الأوصاف، فما الذي يُبقيك على أرضها، ولماذا لا تُعودُ إلى وطنك الأم)؟! وجاء ردُّه سريعاً وعجيباً: (البديلُ هو أن تُسلَّحوا مليوناً من أبنَاءِ وطني الأم، وسيطردون المحتل!!) وأمسك عن الرد على باقي السؤال لسبَبٍ لا يفْتقرُ إلى اجتهاد!

وبعد..،

* فإن ما سردتُه عبر السطور السالفةٍ الذكر.. ليسَتْ سوى خلجاتِ نفسٍ اختزنْتُها عبر أكثر من خمسة عشر عاماً، ولا أحسبُها تختلفُ عمَّا هو مشاهد اليوم أو مسموع في تلك الأرض البعيدةُ مسافةً، العملاقةُ مساحةً، والغنيةُ ثروةً وإنساناً، لا تكادُ الشمسُ (تغيُب) عن سَاحاِت نفُوذها حيث تسمع وترى من خلالها ما تريد!

* تلك هي أمريكا كما يراها خاطري، ورغم ذلك، يبقى في أعماقه شيءٌ من (ولكن)!