تقرير السعادة العالمي الأول تلقفته، الأسبوع الماضي، وسائل الإعلام العربية ومواقع التواصل الإنترنتي باستخفاف، كخبر بحثي طريف لمن ناسبتهم النتيجة، وكخبر سخيف متآمر لمن لم تناسبهم. فكل ما أوخذ هو هذا فائز وذاك خاسر، وكأنه تقرير حكم مباراة منحاز.. رغم أنّ السعادة مراوغة!
حسناً، المباراة العربية كانت نتيجتها أنّ الإمارات كانت الأولى ترتيبها عالمياً 17 والسعودية الثانية ترتيبها 26 ثم الكويت 29 فقطر 31.. وهؤلاء يمثلون الثلث السعيد رقمياً. أما الثلث الثاني في معدل السعادة أو التعاسة فتأتي الأردن 54 والبحرين 61 ثم قفزة إلى الجزائر 71 وقفزة أخرى إلى ليبيا 81 فتونس 87 فلبنان 92، وبالاقتراب من عمق التعاسة يأتي العراق 98، أما تعساء الثلث الأخير فهم بقية الدول العربية، باستثناء عمان التي لم تدرج في التقرير.
لا لوم على صحفيينا المستعجلين “على رزقهم” الذين ظنوا أنّ التقرير مثل كافة التصنيفات العالمية، التي اعتدنا عليها منذ سنوات العولمة الإنترنتية، التي تستثمر الاندماج العالمي لشعوب الأرض في إثارة التنافس بينها لغرض هو في الغالب تجاري جماهيري لجذب دافعي الإعلانات التجارية. فما قام به هؤلاء الصحفيون هو نقل مثير وغير مهني من وكالات الأنباء دون الاطلاع على التقرير بل حتى عنوانه كتبوه خطأ، دون أن يدرون فهم مستعجلون!
التقرير الذي نحن بصدده صدر من أحد أهم الجامعات في العالم ومن صفوة أساتذة الاقتصاد والاجتماع. وهو ببساطة ليس لعبة إعلانية، بل عمل جاد متنوّع وخصب من 158 صفحة عبارة عن دراسات تطبيقية ممنهجة ومن نمط جديد ونقلة نوعية لمفهوم السعادة على أساس علمي، أصدره معهد الأرض في جامعة كولومبيا بتكليف من الأمم المتحدة، شاملاً 156 بلداً.
يستعرض التقرير حالة السعادة لأفراد ودول العالم عبر طرح علمي جديد، ومقدراً السعادة بمعيار أطلق عليه “درجة تقييم الحياة” بمقياس من صفر إلى عشر درجات، كمؤشر وليس كدليل، حاسبا جملة من العوامل كالصحة والأمن الأسري والوظيفي والضمان الاجتماعي والوضع السياسي والفساد الحكومي. كما أخذ في الاعتبار الدراسات والتقارير العالمية والإقليمية السابقة من ناحية القياسات والاستبيانات، وجمع المسوحات من 2005 حتى 2011م.
تقول افتتاحية التقرير: “أسعد البلدان في العالم، كلها في أوروبا الشمالية الدنمارك والنرويج وفنلندا، هولندا بمعدل تقييم 7.6 درجات، وأقل البلدان سعادة هي كل الدول الفقيرة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى توغو وبنين وجمهورية أفريقيا الوسطى وسيراليون، مع متوسط درجات تقييم الحياة من 3.4. ولكن ليست الثروة فقط ما يجعل الناس سعداء: الحرية السياسية، والشبكات الاجتماعية القوية وغياب الفساد معاً، أكثر أهمية من الدخل في توضيح الخلافات بين أعلى وأقل الدول في السعادة. أما على المستوى الفردي، فالصحة النفسية والجسدية، ووجود أحد يعتمد عليه والأمن الوظيفي والأسر المستقرة هي الحاسمة.”
أهم أهداف التقرير كان توضيح مكوّنات السعادة على أساس منظومة معايير أكثر شمولية من كافة الدراسات السابقة من أجل أن يستفيد منها أصحاب القرار في دول العالم. ويجادل التقرير بأنّ التقارير السابقة اقتنعت بربط سعادة الفرد بالدخل وسعادة البلد بإجمالي الإنتاج الوطني، لكن هذه الرابطة تعرّضت للشك خلال السنوات الأخيرة عبر الاقتصاديين الذين يرون أنّ سعادة البلد تكمن بما هو أبعد من الاقتصاد الوطني.
ومن هنا، يؤكد التقرير أنّ العلاقة بين السعادة والثروة ليست متلازمة، بل إنّ الثروة أدت إلى مشاكل مثل الاضطرابات النفسية واضطرابات الأكل الشره، فقدان الشهية، ومشاكل السمنة والسكري، والإدمان على التسوق أو التلفزيون أو القمار أو التبغ.. كذلك الاضطراب الاجتماعي من خلال فقدان المجتمع المحلي، وتراجع الثقة الاجتماعية، وارتفاع مستويات القلق المرتبطة بتقلبات اقتصاد العولمة.. ففي حين أنّ مستويات المعيشة الأساسية هي ضرورية للسعادة، فإنه بعد الحصول على هذه الأساسيات تتفاوت السعادة مع جودة العلاقات الإنسانية أكثر مما هو مع مستوى الدخل. لذا على الأهداف السياسية لكل بلد أن تتضمّن: ارتفاع فرص العمل وجودة ظروفه، بناء وسط اجتماعي قوي مع مستوى عال من الاحترام والثقة، والذي يمكن للحكومة أن تقوم به عبر سياسة المشاركة وتحسين الصحة البدنية والنفسية، ودعم الحياة الأسرية، والتعليم الجيد للجميع.
ويعترض المحلل الاقتصادي تيم ورستول على نظرية التقرير التي تزعم عدم أهمية مستوى الدخل، في مقال طويل ذاكراً أنه حتى معدّو التقرير لا يؤمنون فعلاً بهذه النظرية، مبرراً ذلك بأنّ التقرير نفسه أظهر الدول الغنية في المقدمة والفقيرة في المؤخرة مما يشكل خللاً في نظرية الدراسة؛ كما أن البطالة كانت أهم أسباب عدم السعادة. لذا ينبغي أن نجاهد بقوة من أجل النمو الاقتصادي كي نجعل الناس سعداء، بغض النظر عن “مفارقة إيسترلين”.
وبالمناسبة فمفارقة أو متناقضة إيسترلين هي الفكرة الرئيسية في اقتصاديات السعادة. وهي منسوبة للبروفيسور ريتشارد إيسترلين الذي ناقش بدراسات تطبيقية ومعايير تجريبية أوائل السبعينات علاقة السعادة بالنمو الاقتصادي. وقد وجد أنه داخل بلد معيّن من المرجح أن يكون الناس سعداء مع ارتفاع الدخل. ولكن بالمقارنة بين الدول، فإن مستوى متوسط السعادة لا يختلف كثيراً مع الدخل القومي للفرد الواحد، على الأقل بالنسبة للبلدان ذات الدخل الكافي لتلبية الاحتياجات الأساسية. وبالمثل، فعلى الرغم من أن دخل الفرد ارتفع باطراد في الولايات المتحدة بين عامي 1946 و 1970، فمتوسط السعادة لم يظهر أي اتجاه على المدى الطويل وانخفض بين عامي 1960 و 1970.
يعزّز التقرير الأخير عن السعادة مفهوماً أمريكياً جديداً في الاقتصاد، مطالباً الحكومات الغنية بتصحيح المفهوم من كونه اقتصاداً بحثاً إلى تنمية تعنى بسعادة الفرد. وتلك الفكرة تُطرح بقوة في أمريكا رغم ما يعرف عنها من تقديس المبادرة الفردية وتقليص التدخل الحكومي لحده الأدنى.. ألم يقل بنجامين فرانكلين أبرز مؤسسي الولايات المتحدة: “يكفل الدستور فقط للشعب الأميركي الحق في تحقيق السعادة. ولكن عليك أن تلتقطها بنفسك”؟ أو قول إبراهام لينكولن: “معظم الناس يقتربون من السعادة بقدر ما تقرر عقولهم”.. وبين قرار الفرد وبرنامج الحكومة تكمن مفارقة إيسترلين.. ونحن بالأساس لم نتفق هل السعادة مكان نذهب إليه أم طريق نعبره!؟
alhebib@yahoo.com