كان إنشاء الجامعة الإسلامية في طَيْبة الطيِّبة بذرة مناسبة في أرض خصبة مناسبة. لذلك لم يكن مستغرباً أن تثمر ثمراً يانعاً يبتهج بينعه الكثيرون حين حصاده عاماً بعد عام. وغني عن البيان إيضاح أن المُتبنِّي لذلك الإنشاء والراعي لِنموِّه قيادة وطننا
العزيز، زادها الله سداداً وتوفيقا. وكان إسناد الإشراف المباشر على الإنشاء - في الخطوات الأولى للجامعة - إلى الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله؛ وهو من هو، مكانة علمية واجتماعية حينذاك، دليلاً على أَهمِّية الجامعة المنشأة لدى تلك القيادة. أما جعل الشيخ عبد العزيز بن باز، العالم الورع، أول مدير لها فدليل واضح، أيضاً، على تلك الأَهمِّية.
ولقد توالت السنوات؛ واحدة بعد أخرى، وجَنَّة الجامعة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها يانعة شَهيَّة مُمتدَّة العطاء إلى مشارق الأرض ومغاربها. وكان من توفيق الله لقيادة هذا الوطن العزيز أن أسندت إدارتها، أخيراً، إلى رجل في طليعة صفاته الجميلة: الحيوية المُتدفِّقة والتواضع الجَم؛ وهو الأستاذ الدكتور محمد بن علي العقلا. ولأن هذا المدير يَتَّصف بما يَتَّصف به من سجايا كريمة وأخلاق نبيلة لم يكن غريباً أن كان إخوته المسؤولون إلى جانبه في الجامعة أمثلة للحيويَّة والخلق الكريم والصفات الفاضلة يَشدُّون من أزره ويتسابقون إلى عونه لتحقيق الآمال المَرجوِّة.
ومن أبرز وجوه الحيوَّية المُتدفِّقة لدى الدكتور العقلا وإخوته في الجامعة ذات المكانة الرفيعة المحبوبة لدى المخلصين من أُمَّتنا؛ رجالاً ونساء، ما تَمَّ في رحابها من مؤتمرات وندوات تتناول قضايا مُهَّمة؛ مَحلِّياً وإسلامياً ودوليا. ومن هذه المؤتمرات ما تَمَّ في الأسبوع الماضي مُتمثِّلاً في “المؤتمر الدولي الأول عن اللغة العربية ومواكبة العصر”. أما كرم الضيافة تجاه من شاركوا في المؤتمر، أو دُعوا إليه، والحفاوة التي لقيها الجميع، فمن الصعب التعبير عنهما؛ جزالة سخاء ولطف تعامل. وأما المؤتمر نفسه؛ أَهمِّيةَ موضوع، وتطابقَ حديث معه، ومستوى تناول، فالحديث المختصر عنه قد يكون فيه فائدة.
موضوع اللغة.. لغة أَيِّ أُمَّة.. موضوع مهم. ولقد تَحدَّث عن أَهمِّيته الكثيرون بحيث أصبح الحديث عنه يكاد يكون منطبقاً تماماً مع البيت الشعري القديم القائل:
ما أرانا نقول إلا معاراً
أو معاداً من قولنا مكرورا
وإن من المُسلَّم بصحته لدى الباحثين في تاريخ المجتمعات والحضارات الإنسانية أن اللغة من أهم دعائم هُويَّة الأُمَّة إن لم تكن أَهمَّها. وهذا الأمر المُسلَّم بصحته هو الذي جعل الأُمم الراقية؛ قديماً وحديثاً، تحرص كل الحرص على المحافظة على كيان لغاتها، والتمسُّك باستعمالها وحدها؛ تَحدُّثاً وكتابة، والدفاع عنها، ونشرها بين أُمم أخرى. وإذا كان الاهتمام لدى الأُمم بلغاتها، التي منها ما هو حديث النشأة والتطوُّر نسبياً، قد بلغ مستوى رفيعاً فجدير أن يكون الاهتمام باللغة العربية بالذات لدى أُمَّتنا أعظم. ذلك أنها اللغة التي أنزل بها القرآن الكريم، والتي لم يَتكدَّر صفو معينها منذ خمسة عشر قرناً؛ إذ ما يزال العربي لساناً - على العموم - يقرأ ما كُتِب بها، أو يسمع ما قيل بها، في القرن الأول الهجري؛ شعراً أو نثراً، فيفهمه ويستمتع بالجميل منه. وهي اللغة التي تَمكَّنت، في قرون مضت، أن تبرهن على قدرتها على استيعاب ما كُتِب في حضارات قديمة مُتعدِّدة، وصهرته مع ما أضافت إليه من فكر وإبداع في بوتقة واحدة لِتقدِّم إلى الإنسانية كلها حضارة عربية إسلامية عظيمة في مسيرة تاريخ البشرية؛ فكراً وعلماً وثقافةً وإبداعا.
ولقد بدأ المؤتمر، أو تظاهرة العربية، مساء يوم الاثنين الماضي، بحفل افتتاح تَضمَّن تلاوة آيات من القرآن الكريم، فكلمة لعميد كلية اللغة العربية، فكلمة للمشاركين في المؤتمر وضيوفه، فقصيدة للدكتور عبد الرحمن العشماوي، فكلمة لمدير الجامعة. ثم تلت ذلك محاضرة للشيخ الدكتور عبد العزيز الفوزان بعنوان: “الثقافة بين الأصالة والتجديد”. وفي صباح يوم الثلاثاء بدأت الجلسات العلمية للمؤتمر. وهي مُكوَّنة من ثماني جلسات متناولة محاور مختلفة. ففي الجلسة الأولى كان المحور عن “دور أقسام اللغة العربية في الجامعات في النهوض بالعربية وآدابها”. أما في الجلسات الثانية والثالثة والرابعة فكان المحور “ اللهجات والتأصيل اللغوي”. وأما الجلسة الخامسة فكان المحور فيها عن “اللغة العربية ووسائل التقنية والاتِّصال الحديثة”. وكان المحور في الجلسة السادسة عن “ دور الآثار الأدبية المعاصرة”. وأما الجلستان السابعة والثامنة فكان المحور فيهما عن “هموم اللغة العربية في عصر العولمة”. وكانت الجلسة الختامية للمؤتمر ظهر يوم الأربعاء برئاسة معالي مدير الجامعة؛ مُتضمِّنة فيما تضمَّنت توصيات إن تَحقَّق عشرها فهو مكسب عظيم للغة العربية.
وفي نظري؛ وأنا الذي قَدَّر الله أن أكون متخصصاً في جانب محصور من جوانب التاريخ الحديث، لكني عاشق للغتي العربية؛ شعراً ونثراً، ومعتز بها كلَّ الاعتزاز، أن الجامعة الإسلامية المُوقَّرة جديرة بالتقدير والشكر الجزيل على إقامتها المؤتمر، أو تظاهرة العربية، في ربوعها؛ حرصاً منها على إبراز مكانة اللغة العربية، وغيرة منها على سلامتها، وإسهاماً منها في درء السهام المُوجَّهة إلى كيانها. على أني كنت آمل أن المؤتمر قد راعى مراعاة تامة ما دَلَّ عليه عنوانه الكبير؛ وهو: “اللغة العربية ومواكبة العصر”. فهمي لهذا العنوان المُهمّ أن البحث سيتركَّز حول مدى قدرة اللغة العربية على مواكبة العصر. وحسب معرفتي المحدودة أن من أهم الجوانب المُوثِّرة تأثيراً كبيراً في مسيرة حركة هذا العصر، إن لم تكن أهمَّها: الاقتصاد، والعلوم؛ بحتة وتطبيقية، والتقنية والاتِّصالات المذهلة في سرعة تَطوِّرها. وكان المُؤمَّل أن يبحث بعمق عن مقدرة اللغة العربية على أن تكون أداة لمعرفة هذه الجوانب، وللإنتاج العلمي مكتوباً بها. وأجدر من يمكن أن يدلي بدلوه في الحديث عن ذلك، هم المتخصصون في الجوانب المذكورة. فإن كانوا ممن يرون مقدرة العربية على أن تكون أداة لمعرفتها والإنتاج العلمي بها فكلمتهم أحرى بإقناع الآخرين؛ مسؤولين وغير مسؤولين، بَتبنِّي تدريس جميع فروع المعرفة باللغة العربية. وإن كانوا يرون عدم مقدرة هذه اللغة على أن تكون أداة لمعرفتها والإنتاج العلمي بها فمن الواجب محاورتهم؛ أملاً في أن يقتنعوا بوجهة نظر من يرون أنها قادرة على تحقيق الأهداف المرجوة.
ووجهة نظري تلك كانت قد جعلتني - وأنا أَتأمَّل العنوان الكبير للمؤتمر - أُؤمِّل أني سأجد نصف المُتحدِّثين في ذلك اللقاء العلمي، على الأقل، من المتخصصين في جوانب المعرفة، التي ذكرت سابقاً أنها المُؤثِّرة تأثيراً كبيراً في مسيرة حركة هذا العصر: الاقتصاد، والعلوم؛ بحثة وتطبيقية، والتقنية والاتِّصالات المذهلة في سرعة تَطوُّرها. لكن ما تَمَّ في المؤتمر لم يكن وفق ما أَمَّلت. وقد أكون مخطئاً عندما أمَّلت غير مراع، أو متأمِّل، لكثير من مؤتمرات وندوات سابقة لأُمَّتنا العربية الإسلامية.