يعيش بعض الناس مضطرباً في حياته بسبب دوامة جارفة من الوهم تلعب بعقله ومشاعره، وتورده المهالك في قوله وفعله.
كتبت قبل حوالي عشرين سنة قصيدة من شعر التفعيلة، عنوانها: «دوامة الوهم» ألقيتها في بعض الأمسيات الشعرية، وسمعت تعليقات مختلفة عنها من بعض من استمعوا إليها، ولكن تعليق الدكتور أحمد البراء الأميري ما زال أبرزها في ذاكرتي حيث قال: أنت لم تكتب هذه القصيدة وحدك، بل كتبها معك بعضُ مَرَدةِ الجنِّ، فقلت له في حينها: أما الجن فلا مكان لهم عندي لأنني أستصحب معي السياج الذهبي الواقي، أذكار الصباح والمساء كل يوم وليلة منذ عرفت الحياة، أسأل الله أن يجزي عني خير الجزاء من علّمني إياه حتى أصبح جزءاً من حياتي. وما كان تعليق الأخ الدكتور أحمد البراء إلا من باب تعجبه من تسلسل الصور الشعرية في القصيدة مع توهج عاطفتها وطرافة فكرتها، ولرأيه قيمة لأنه شاعر ذوَّاقة، وناقد متمرس، وابن بيئة شعرية متميزة أنشأها والده الشاعر الكبير «عمر بهاء الدين الأميري» -رحمه الله تعالى-.
أما قصيدة (دوَّامة الوهم) فقد شاركني في كتابتها وهج المشاعر الملتهب الذي أشعل نيران الغيرة في نفسي على ديني وأمتي ووطني، بعد أن سمعت بعض الملحدين في لقاء ثقافي يتحدثون عن سقوط فكرة «الدين» وانتهاء دور «المقدس» في حياة المسلمين، مؤكدين -في ذلك الوقت- أي قبل عشرين عاماً، أنَّ الحرية المطلقة هي دين الإنسان المعاصر وأن دور الآباء والأجداد بكل ما يحملون من أفكار بالية، وتصورات جامدة، قد ولَّى إلى غير رجعة، وأن الناس لن يستمروا في اجترار الأفكار القديمة، وفي الرضوخ لأوامر الدين الذي انتهى أثره بانتهاء زمانه.
كان أولئك النفر يتحدثون وكأنهم قُوَّاد البشرية في المستقبل، وحينما قلت لهم: إنكم تعيشون في دائرة من الوهم الكبير تجعلكم تقولون هذا الكلام الخطير، وإن دوَّامة الوهم تجرف عقولكم، وتتجه بكم إلى حفرة عميقة من الضلال والضياع. صرخوا في وجه كلامي الواضح، وختموا كلامهم «الفارغ» بضحكات لم أسمع في حياتي أقبح منها شكلاً ومضموناً، وختمت كلامي معهم بقوله تعالى في قصة نوح: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}. وتركتهم في ضلالهم يعمهون، وتنحيت جانباً لاستوعب سيل القصيدة الجارف الذي تدفق في تلك اللحظة، وما زال يهدر ويتدفق حتى استوعبت كل ما ساقه إليَّ من الكلمات والصور الشعرية، وجمعته في إطار قصيدة اسميتها «دوَّامة الوهم».
أتدرون -أيُّها الأحبَّة- ماذا يشعل نار الحسرة في قلبي الآن؟؟
إن «دوَّامة الوهم» ما زالت تجرف عقولاً وقلوباً لرجال مسلمين ونساء مسلمات حتى هذه اللحظة، مع أن الحقائق قد تجلَّت، ومناهج الكفر قد سقطت، ومذاهب الضلال قد انكشفت، وأنظمة الظلم والاستبداد قد تهاوت، وعودة الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى قد ظهرت، نعم ما زالت دوَّامة الوهم تتلاعب بأناس ينتمون إلى عالم الفكر والثقافة، ويتخصصون في ضروب من العلوم والمعارف، وكأنهم لا يفقهون، فهم يسلكون طريق فرعون الذي ظلَّ في دوامة وهمه حتى أدركه الغرق وطريق ذلك الذي عبَّر عن وهمه الكبير بكلمة «فهمتكم» ولكن بعد فوات الأوان.
إشارة:
إذا بنى المرء فوق الرمل منزله
فلا يلومنَّ إلا عقل مجنون