شاهدته في لقاء طويل حول زيارته التي أثارت الغبار والدخان وأشعلت عليه نار الرفض والاحتجاج، كان اللقاء في إحدى الفضائيات المصرية، وكان المذيع من هؤلاء المذيعين الذين يجعلون لغة الحركة والإشارة أسلوبهم الأول في الحوار وليس لهم -ثقافياً- قدرة على إدارة حوار معتبر، ومع ذلك فقد تفوّق المذيع في هذا اللقاء على مفتي مصر ذي القدرة العلمية والثقافية واللغوية الفائقة، تفوّق عليه لأن فضيلة المفتي كان ضعيف الحجة، مضطرب الموقف، غير قادر على استخدام ثروته اللغوية الكبيرة في إخراج نفسه من مأزق الموقف.
لقد أدركت وأنا أشاهد هذا اللقاء أن قوة الإنسان في قوة موقفه النفسي، وصدقه ووضوحه، وأن قوة الحجة لا تتحقق إلا بقوة الجبهة الداخلية «الروحية» عند الإنسان فإذا فقدها فقد القدرة على الإقناع.
كانت أسئلة المذيع مكتوبة أمامه، وكان كل سؤال منها كالسهم ينطلق إلى المفتي المصري فلا يستطيع له دفعاً، بل إنه كان يصيب من شخصيته مقتلاً، على الرغم من ركاكة اللغة والأسلوب الذي كان المذيع يقدم به أسئلته.
س: لماذا ذهبت إلى الأقصى يا فضيلة الشيخ وهو في يد الصهاينة؟
ج: لأنني أردت أن ألفت إليه الأنظار وأقول للناس إن الأقصى في خطر.
س: ولكن المسلمين جميعاً يعلمون أن الأقصى في خطر من قبل هذه الزيارة بعشرات السنوات.
ج: أي نعم، ولكن الأقصى في وحشة من بعدنا عنه، وأنا لا أرى شَخْصَنَة الزيارة، وإنما أرى الحديث عن الأقصى بصفته قضية.
س: ولكنك خالفت الأمة يا فضيلة الشيخ.
ج: ولا خالفتها ولا شيء، «ما قلنا بلاش شخصنة».
س: لماذا سمحوا لك بالزيارة ولم يسمحوا لعكرمة صبري المفتي السابق للقدس.
ج: هُوّه الشيخ عكرمة دعاني من زمان لزيارة الأقصى.
س: ولكنه استنكر زيارتك كما نقلت وسائل الإعلام.
ج: يمكن لأنه ترك منصب الإفتاء، وبعدين، لماذا الإصرار على الشخصنة؟
ولو كنت مكان المذيع لسألته -أيضاً- عن منع الآلاف من الفلسطينيين المقدسيين الذين يتحرقون شوقاً إلى الصلاة في المسجد الأقصى وهم يرونه رأي العين ولا يستطيعون أن يحوموا حوله.
فات على المذيع أن يسأل عن سبب الزيارة الحقيقي، وسبب التوقيت وسبب هذه السهولة في الإذن له، ولكن سؤالاً واحداً كان كفيلاً بأن يجعل فضيلة المفتي مكشوفاً أمام المشاهدين حتى تمنيتُ لو أنه لم يوافق على إجراء هذا اللقاء من باب «إذا بُليتم فاستتروا».
قال له المذيع وهو يقرأ السؤال بطريقة مترددة: لقد أدخلوك من باب المغاربة، وهو باب معرّض للهدم وتحته حفريات، ألا ترى أن دخولك منه إقرار لما يفعلون به.
أجاب الشيخ بصمت مرتبك يدلّ على المفاجأة، ثم بدأ يتحدث بأسلوب مضطرب متسائلاً: برضُه نحن نُصِرّ على الشخصنة، اتركنا من هذا ودعني أقولك الأقصى في خطر، الأقصى في خطر بصوتٍ يمكن أن يوصف بأنه كان واهناً.
أنا أعرف فضيلة مفتي مصر متحدثاً قادراً على اختيار العبارات الجيدة، وعلى الأداء الممتاز، فما باله كان في هذا اللقاء واهناً؟
إشارة:
غَضِبْتُ لنا يجمعنا هدانا
وما زلنا يفرِّقنا انقسام