إن كل متتبع حصيف للانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة والاستقالة الأخيرة للوزير الأول الهولندي، سيجد علاوة على الأزمة المالية التي هي عبارة عن باروميتر لتحديد أصوات الناخبين، مشكلات الهجرة التي على جنباتها
وخباياها يعز السياسيون الأوروبيون أو يذلون؛ فمشكلة إدماج المهاجرين أصبح خزانًا لحشد أصوات الناخبين.. لذا تكثر المزايدات والمضاربات السياسية على حساب المهاجرين وبالأخص المسلمون منهم؛ والبعض ينسى أن الفضاء المتوسطي الأوروبي أصبح لا يخص فحسب الضفة الشمالية للمتوسط، بل إن دول الضفة الجنوبية، وبالخصوص دول المغرب العربي وتركيا، أصبحت دولاً مستقبلة للهجرة ودولاً للعبور، ودخلت في سياسة تصريف الحدود التي ينهجها الاتحاد الأوروبي مقابل الاستفادة من اتفاقات تجارية.
ولطرح الإشكالية بطريقة علمية بعيدة عن المنظور الأمني الوحيد الذي يتبعه السياسيون الأوروبيون، من اللازم وضع رؤية أكثر توازنًا للهجرة على اعتبار أن الأمر ينظر إليه كإغناء متبادل في حين تعده دول الضفتين تحديًا، وهذا حسب تعبير الخبيرة العالمية كاترين دي فندن يولد نفاقًا دوليًا يرمي إلى تخفيض التبادل الاقتصادي وجعله يقتصر على عمليات تحويل أموال المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية (14 مليار يورو) وخلق شراكة تشمل المشاريع الصغيرة، في حين أن هناك ضرورة لإرساء مقاربة ماكرو اقتصادية واجتماعية، وعودة المهاجرين إلى الاندماج في الوقت الذي لا يتعلق الأمر بعمليات الترحيل،كما أن هذا النفاق يخفي اختلاف مصالح الدول داخل الفضاء الأورومتوسطي.
وهناك على العموم ثلاثة حلول يمكن تبنيها، أولاً ضرورة عدم جعل المهاجرين رهائن لسياسة أمنية وسياسة لمحاربة الإسلاموية تم تبنيها في حوض المتوسط، وعدم الخلط بين الهجرة والإرهاب والمخدرات والجريمة، وذلك بفضل دمقرطة التنقل عبر الحدود لأكبر عدد ممكن؛ وهذا مطلب يلح عليه شباب الضفة الجنوبية الذين يسعون إلى تحقيق حرية التنقل؛ كما تستدعي هذه السياسة إصلاح سياسة التأشيرات؛ لأن التشديد فيها يخلق مظاهر الاحتيال عليها والمتاجرة بالوثائق المزورة.
وترصد أموال طائلة لمحاربة الدخول السري لدول البحر الأبيض المتوسط، في حين أن هذه المشكلة لا يطال سوى 10 في المائة من الهجرة غير الشرعية التي في أغلبها تنجم عن تمديد دخول شرعي إلى إقامة غير شرعية.
وتتقاسم دول الضفة الجنوبية هذه المقاربة الأمنية التي طوّرت بدورها سياسات مضادة للهجرة وشددت المراقبة، مما أدى بالمهاجرين إلى سلك معابر شاقة وأكثر خطورة (قناة سيسيليا بدل لبريندسي وجزر الكناري عوض مضيق جبل طارق).
وتشير كل الأبحاث أنه كلّما كانت الحدود مفتوحة سهل مرور المهاجرين (كما هو الحال بأوروبا الوسطى والشرقية منذ سنة 1991)، وكلّما أصبحت التخوم مغلقة كثر التهريب وأضحى المهاجرون يستقرون بصفة عشوائية حينما تنقصهم الوثائق اللازمة نتيجة عدم القدرة على المغادرة أو العودة فيما بعد.
غير أن الهجرة تُعدُّ عاملاً لتحقيق التطوير الاقتصادي وتحقيق التقدم السياسي والاجتماعي والثقافي، وكثيرة هي دول الجنوب التي ليس لها حل بديل على المدى القصير سوى الهجرة كأفق بالنسبة لفئاتها المؤهلة وغير المؤهلة في الآن نفسه.
كما تُعدُّ الهجرة عاملاً لإعادة التوازن الديمغرافي بين الشمال والجنوب، إذ إن 50 في المائة من سكان الضفة الجنوبية تقل أعمارهم عن 25 سنة، في حين أن هناك الكثير من دول الشمال التي تعاني من تداعيات الشيخوخة).
وتشكل الهجرة حلاً لبطالة شباب الجنوب ونقص اليد العاملة في دول الشمال ودول العبور، في سياق تجزئة سوق الشغل؛ وهكذا فإن الحق في التنقل يمثل شرطًا لتحويل المهاجرين إلى فاعلين في الفضاء المتوسطي، إذ يحظى به أولئك الذين اكتسبوا الجنسية بدول الاستقبال، أو الذين لهم رخص إقامة تسمح لهم بالتنقل بسهولة، بمعنى المهاجرين الأكثر تأهيلاً وكذلك الذين أقاموا لمدة طويلة بدول الاستقبال، وإلا أصبحت الحدود مصدر كسب للمهربين وتؤدي إلى تفاقم التكلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية بين الضفتين لأنها تجعل عسيرًا الحوار والتبادلات بين الجانبين.
ويبرز نوعان من الهجرة بين الضفتين، بين أوروبا وشعوب الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. فهناك “الأزواج المهاجرة”، أي عندما تكون جنسية واحدة حاضرة داخل دولة أوروبية واحدة كما هو الحال بالنسبة للجزائر، حيث إن 95 في المائة من مواطنيها وذرياتهم يوجدون بفرنسا. وعلى النقيض من ذلك توجد جنسيات بأعداد مهمة بعدة دول أوروبية، واستطاعت أن تنسج علاقات عائلية وجمعوية وثقافية واقتصادية وسياسية بين هذه التجمعات في الدول الأوروبية ودول الانطلاق، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب وتركيا.
ثانيًا، الأخذ بعين الاعتبار الهجرة كعامل للتنمية في سياق عام. وبهذا تكون الهجرة وسيلة فعَّالة لإرساء مواطنة عابرة للحدود، وقادرة على جعل المهاجرين وسطاء في الشراكة والتعاون والمشاركة في الفضاء المتوسطي، شرط أن يكون لهم الحق في التنقل بكل سهولة وفي العودة الفردية وتكوين حقيقي لانخراط مستدام في المجتمع. ولعل تأمين نظام نقل الأموال وإعطاء الضمانات للمهاجرين بهدف خلق مقاولات في بلدانهم الأصلية لكفيل بتحقيق ذلك. ثم إن تعزيز هذه الحقوق لا يمكن أن يتحقق إلا إذا استفاد المهاجرون كذلك من حماية حقوقهم في الاتفاقيات الدولية، وخصوصًا اتفاقيات المنظمة الدولية للعمل ومنظمة الأمم المتحدة؛ ولم توقع سوى دول قليلة على اتفاقية الأمم المتحدة حول حقوق العمال المهاجرين وعائلاتهم.
وتُعدُّ محاربة التمييز وسيلة كي تستفيد دول الاستقبال من المهاجرين وتمكينهم من أحسن الفرص للاندماج الاجتماعي. وترجع الدينامكية الاقتصادية لدول مثل إسبانيا، التي انتقلت منذ 2001 من 1.4 مليون إلى 4.5 مليون أجنبي، إلى اعتمادها على المهاجرين. وباتت عمليات تسوية أوضاع أولئك غير الشرعيين مربحة دون أن تسبب ثأثيرًا مضادًا كما كان متوقعًا، إذ سجل زيادة 7 ملايين منصب عمل وارتفعت نسبة النساء العاملات إلى 45 في المائة.
غير أن ظروف العودة تُعدُّ حاسمة لكي يصبح المهاجر فاعلاً في الفضاء الذي أسسه ولكي تصبح هجرة الأدمغة مسار ربح وليست هجرة بدون عودة كما هو الحال اليوم. إذ يتعين على الدول الأصلية أن تعرف كيف تستفيد من الهجرة بمنح إمكانات ليس لعودة رؤوس الأموال فحسب، وإنما لعودة العنصر البشري بهدف تحقيق استثمارات إنتاجية وتوفير إمكانات المشاركة الاجتماعية والسياسية.
ثالثًا، الدفع بمواطنة الإقامة والمواطنة المشتركة المبنية على الوجود هنا وهناك. هذا الغزو للحصول على حقوق جديدة يمر باعتراف واسع بالجنسية المزدوجة عبر إعطاء مكانة كبرى لحقوق المهاجرين في دول الجنوب، سواء أكانت دول استقبال أو دول عبور؛ وتواجه اليوم دول المغرب العربي هجرة عبور مستقرة، وليس باستطاعتها التعاون في مجال مرور المهاجرين الذين يتوجهون إلى أوروبا ويعجزون عن عبور المتوسط بسبب المراقبة المشددة على الحدود التي تمارسها دول الجنوب فيجدون أنفسهم أسرى بين الضفتين دون حقوق.
وفي الأخير يبقى الحوار الأورو متوسطي مطبوعًا بنفاق مرتبط بتنوع المصالح، خصوصًا إذا لم يتم معالجة المشكلات الحقيقية: التمييز الاجتماعي والجغرافي للمهاجرين، وأزمة هوية الأجيال المنحدرة من الهجرة، ومكانة الإسلام في دول الشمال، ومشكلة التنمية والفقر والديمقراطية في دول الجنوب، وغياب إجماع دول المغرب العربي حول سياسة مشتركة، وحق الهجرة في دول الجنوب. ولعل الفجوة بين ضفتي المتوسط لدليل على عولمة جامحة تطال التبادل الاقتصادي والسياسي والديموغرافي والاجتماعي والثقافي.
وإذا أردنا أن نجعل المهاجرين شركاء بشكل تام في هذا التبادل، وفاعلين في هذه المشاركة وفي هذه التنمية، يجب تمكينهم بطريقة أكثر يسرًا من حق التنقل وحق المواطنة وتفعيلها بين الضفتين وفي دول العبور كذلك.