حينما أدخل إلى عالم الأبجدية.. أشعر أني أدخل إلى عالمٍ حميمي.. أحلق فيه بعيداً عن هموم الحياة اليومية.. وتبعات المسؤولية، وأجواء الضجيج والتوتر والأحداث التي تتزاحم وتتوالى بوتيرة متسارعة.. وإيقاعات صاخبة من حلقات صراع..وطواحين عنف وهموم شغلت البشرية في فضاءات هذا الكون.. وحين نحب هذا العالم تصبح علاقتنا به علاقة عشقٍ والتصاق شبه أبدية.. نعشق الكلمات والعبارات .. ونعشق حتى ما بين السطور.. نقرأ كلَّ ما يُكتب في عالم الورق من إبداعات الآخرين.. خاطرة.. مقالة.. كتاب..
أو قصة يصنعها كاتب فنعيش عالمها.. وتدفق جمال السرد فيها.. وقد نسرح إلى عوالم خيالية.. نصادق فيها بعضاً من شخصياتها أو كائناتها الأخرى.. حتى الأوراق التي نبثها هواجس الحرف.. والكلمة نتفنن في اختيار ألوانها وأشكالها.. لأننا نتصور بأن نقش الحرف والعبارة عليها.. سيكون أكثر إبداعاً وتأثيراً.. فقد ندون فكرة في كلمة فَتُحفَر في القلوب أو تستوطن العقول.. وقد تلامس الأحاسيس والمشاعر وتتفاعل مع المواقف في انعراجات زمنٍ يفيض بخليطٍ من التناقضات المتعددة.. فرحٌ وحزن..عتابٌ وتسامح.. فشلٌ ونجاح.. ظلمٌ وعدل.. انتصارٌ وهزيمة.. سقوطٌ وارتقاء.. استبدادٌ وعدالة... إلى غير ذلك من التناقضات التي يعجُ بها مسرح الحياة... وفرضت وجودها رغماً عنا ودون إرادتنا.
أجمل ما في عالم الورق.. أنه يمنحنا القدرة على تغيير لغة أقلامنا..فلا شيء يضاهي المحبرة في منحنا سماءاتٍ واسعة من الأبجدية.. حتى ولو كانت أحياناً أبجدية مفقودةً التأثير والأهمية والمعنى.. لكنها قادرة على أن تمنحنا إحساساً بالتواجد فـي فضاء لا حدودَ له.
عندما نكتب.. ليس المهم أن نحصل على درجة التقدير والتفوق لنجاح ماكتبنا.. أو درجة الإخفاق والفشل على ما صاغته عقولنا وخَطته أقلامُنا من عبارات.. لأننا قد اعتدنا على مزيج التناقضات في عالمنا... ولكن يكفي أن بعضَ الآذان تسمعُنا وبعضَ الأهداب تقرؤنا..وبعضَ الأرواح تُحِبُ أرواحنا.. فتبتسم تارة لما كتبنا.. وتستغرب تارة.. وقد ترفض أو تغضب تارة أخرى.. هذه هي تناقضات عصر الضجيج.
قد تكون أقسى لحظة تواجه من يكتب.. هي تلك اللحظة التي يهيئ فيها نفسه للكتابة.. فيكتشف أن موارده الفكرية قد نضبت وقدرته على صياغة الجمل وترتيب الكلمات قد تعطلت.. والقلم أصبح ثقيلاً في يده.. وقد يزداد ثقلاً كلما ازداد هاجسه بعظم مسؤولية الكلمة أو العبارة التي سيكتبها.. فقد تكون أعوادَ ثقاب تحرق.. أو مشاعل نور تضيئ.. لذلك يبقى التحدي قائماً يواجه الكاتب كلما أمسك بالقلم وأراد أن يكتب.. ومع كل ورقة جديدة ناصعة.. يبحث تحت شمس الكون وعلى مفترق الطرق عن لحظة هاربة من تراكماتٍ للأحداث وتفاعلات للمواقف.. أو صراعاتٍ رافقت مصير الإنسان في عالمٍ واسع مضطرب.. فيسعى بقوة لاقتناصها واستحضارها ليكون هناك شيءٌ جديد قد يستخدم فيه كل ملكاته ويكتب عنه قبل غيره، ولكن تبقى لحظة كتابة الكلمة لحظة قد لا تكرر نفسها.. وهذا سرُ إعجازِها ومصدر قوتها.. إنها لحظة نادرة.. لحظة معاندة ومكابرة.. لحظة إبداعية لا تمنح نفسها بكل سهولة.. لذلك فكل من يراوده هاجس الكتابة قد يقاسي حتى يُكَافأ ببديع الكلمة وثمرة الفكر.
وعندما تَفْرِضُ الكتابة وجودها على ذات وعقل الكاتب تصبح هي رسالته الخالدة ومتعته الذاتية وإحساسه النابض؛ فيبحر في عالم التفكير والإبداع، وربما يتحول تأليف الجمل لديه إلى حرفة أزلية رغم أنه مَلَكَة ونبضُ مشاعر، يواجه بهاعناصر الحياة بجمالها وقبحها..بحلوها ومرها.. هي فرصة للبحث والتأمل والتأثير.. وملامسة عواطف المتوهجين بشعلة الأمل وإرضاء للنفوس ذات الحقوق المهضومة والأحداث الصعبة مهما كانت فداحتُها، والتعبير عن جروح الزمن من خوف وبؤس وفقر وبطالة.
ولأنه بالضد تتميز الأشياء فبالمقابل الإبداع في الكلمة يشحذ الهمم ويشعل حماس التنافس الشريف ويسرد حكايا الناجحين والمناضلين.. هي سفيرٌ إلى عالم الغد الجميل.. تعبر عن روح الأمة وضميرها وآمالها وتطلعاتها.
وإذا كان نتاج عقل ومخيلة الكاتب يوصف بالإبداع فهناك إبداعٌ من نوعٍ آخر، يتجلى في التلقي والاستيعاب.. إبداعٌ في تذوق الكلمة بكل ما تحويه من مخزونٍ عاطفي ووجداني وتراثي.
الكلمة بقدر ماهي ابداع الكاتب فهي إبداع للقارئ المتذوق. ومع استمرار العلاقة الوثيقة التي تربط الكاتب بالكلمة التي هي مفتاح القصة والرواية...الأسطورة والقصيدة المقالة والخاطرة وكل مايُكتب.. يظل الكاتب داخل رواق مكتبته يبحث بين زخم الرفوف عن شيئا جديدا مختلفا عن كل ماسبق تسطيره أوحتى إضافة لأفكارٍ وإبداعاتٍ سابقة قد يعيد صياغة لأسلوب موضوع أو رؤية تم طرحُها مسبقاً فيتناولها ويضيف إليها شيئاً من ذاته وأسلوبه ورؤيته فتصبح شيئاً جديداً مختلفاً.. نشعر ونحن نقرأ له أننا داخل تجربة جديدة وطرحٍ مغاير.
إجمالاً.. تبقى الكلمة المكتوبة إبداعاً يتصل بالتعبير عن خفايا النفس البشرية.. تقدم رؤية للكون والحياة.. تنبض وتبوح وتحمل ذوب القلب وسطوع وشفافية الإبداع المثقل بالإيقاعات الجميلة...لكن..!! قد تتوشح بالرموزالغامضة أوالدلالات المبهمة..أو حتى قد تخفي بين حروفها تمرداً يلقي بظلاله السوداء على حياة البشر.. لكن تبقى الكلمة المكتوبة مهما كان مغزاها منبراً.. يخاطب العقول ويداعب النفوس...لأن هناك من يسمع...ومن يقرأ...ومن يُحِب أن يُكْتبَ له أو عنه.