بعد مرور أكثر من عقد على تأسيس القاعدة، لم تتضح الجذور الفكرية التي تسعى الحركة المتطرفة للوصول من خلالها للمجتمع، وماهي مطالبها على وجه التحديد، وماذا تريد؟، وبقدر ما غاب منهجها الفكري عن الحضور، حضرت المشاهد الدموية وصور الرؤوس المقطوعة بحد السكين، وبقي دوي الانفجارات العنيفة في المساكن الآمنة في أسماعنا، وبرغم من غيابها التام في مشاهد ثورات الربيع العربي الأخيرة، لا تزال تخرج بين الفينة والأخرى تهدد بالقتل وتوعد بالتفجير، وفي هذه المرحلة أستطيع القول إن القاعدة نحرت بسكاكينها ما يطلق عليه بالمشروع الصحوي أو الفكر الديني المتطرف الذي يقدم رؤية فكرية محافظة للحياة ويرفض العمل المدني والمشاركة ويطالب بتطبيق حازم وإقصائي للشريعة الإسلامية..
تساقطت رموز الفكر الصحوي المحافظ في السنوات الأخيرة في أحضان الفكر الإنساني الذي يقبل بالآخر ويؤمن بالحرية المسؤولة للإنسان والفكر، يقول المرشح السلفي للرئاسة المصرية حازم أبو إسماعيل في مقابلة له مع تلفزيون الرحمة في 20 أبريل 2012 : «إنه ضد فرض القيود على حرية الأفراد وحرية التفكير.. وإنه يربي أولاده على هذه القيم»، وفي هذا التصريح إعلان خروج عن أطر فكر القاعدة التكفيري، وعن الفكر الصحوي السلفي الإقصائي، واعتناق للفكر الإنساني ولحرية الفكر والعمل المدني، وإن لم تختلف الصورة الشكلية للمرشح، وقد ظهر ذلك أيضاً في قبول مختلف الأحزاب عدم استعمال الدين في شعاراتهم الانتخابية، كما اتخذ المجلس الانتقالي الليبي قرار حظر تأسيس الأحزاب على أساس ديني وعرقي وجهوي، وفسر أحد أعضائه القرار بقوله: «إن القانون لا يستهدف المعتدلين، ولكن المتشددين الذي يقصون الآخر»، في إشارة خفية للنهج القاعدي..
قدم إخوان سوريا صك براءة من القاعدة عندما أكدوا في وثيقتهم الأخيرة على مدنية الدولة، والالتزام بالتعددية والديمقراطية وتداول السلطة، والحفاظ على المواطنة وحقوق الأقليات، وإتاحة كل مناصب الدولة بما فيها منصب الرئاسة لكافة الأعراق والمذاهب والأجناس بنفس القدر والمساواة، وتبنِّي قيم الحوار والمشاركة ونبذ الإقصاء والاستئثار والمغالبة، ويدخل في ذلك ما حدث من حراك مدني في انتخابات تونس الأخيرة ومحاصرتهم للفكر الإقصائي، الذي أصبح بمثابة الدليل الذي يربط أي فكر أو مذهب ديني بالقاعدة، ويدخل في ذلك تيارات الفكر المتطرفة التي إذا لم تتبرأ من الإقصاء ومحاربة المخالفين ستظل بمثابة المرجعية غير المعلنة لفكر القاعدة.
على المستوى المحلي ظهر الانشقاق الفكري بين زعماء الصحوة، فتحول بعضهم إلى الوسط، وقدم آخرون أنفسهم كدعاة للمدنية والديموقراطية في محاولة جدية للهروب من دائرة القاعدة الضيقة، وانتقلت فئة منهم إلى الإعلام وعالم النجومية، وانحسرت جذور الفكر الإقصائي في بعض رموز المرجعية المحافظة، والتي لازالت ترفض أن تفتح أبوابها للجميع، وترفض مبدأ الحرية والتعددية، وهو ما يجعل موقفها هذا نقطة التقاء غير متفق عليها بينها وبين القاعدة، برغم من سماحة بعض علمائها ودعواتهم السلمية للإصلاح، وقد أفهم جيداً مواقفهم الإقصائية، فالتغيير في المرجعيات الدينية لا يحدث بين ليلة وضحاها، وقد يحتاج الأمر إلى تعاقب في الأجيال، وظهور علماء مجتهدين يقبلون بالآخر ويسمحون بالتعددية، وقد يكون الإقصاء تحت غطاء الدين يوماً ما غير مسموح به، كما هو الحال في الدول العربية والإسلامية الأخرى.
حدث في تاريخ أوروبا شيءٌ من ذلك، فقد قضى الفكر النازي الإقصائي على تيارات الفكر القومي في أوروبا، وأدى العنف الإجرامي النازي في إعلان الحرب على الإقصاء العرقي الديني، ومحاربة العنصرية والعمل على تعزيز حقوق الإنسان مهما اختلف اللون والعرق والدين، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت النازية شعاراً للعنصرية والإقصاء، ولا زالت أوروبا تسن القوانين من أجل نبذ الفكر النازي ومنع مشاركته في الانتخابات، وفي العالم الإسلامي أصبحت القاعدة رمزاً للإقصاء والعدوانية، وقد ظهر ذلك في قوانين تأسيس الأحزاب في دول الربيع العربي، بل أصبحت الأحزاب الإسلامية تعلن على الملأ خلو فكرها من الإقصاء ومن أي أثر للقاعدة، ولكن هل سيدرك المتزمتون في المجتمع السعودي ما يعني ذلك، وهل سيعلنون يوماً ما نبذهم للإقصاء الديني، والذي يعني بصورة غير مباشرة دعوة للانتماء لنهج القاعدة..