التقنيات الاتصالية بدأت تنتقل من الرسمي إلى الشعبي، وبدأنا نعيش لحظات الشعوب والناس وهمومهم وملامحهم الطبيعية.. عندما تستطيع من جوالك أو الآيباد أو جهازك المحمول الدخول إلى كاميرات
مباشرة وعلى الهواء مثبته في ساحات وشوارع وشواطئ ومطاعم وحانات ومطارات وملاعب رياضية وملاعب الجولف ومباني تحت الإنشاء وحدائق وحيوانات وعبارات للمياه من مكان لمكان ومدارس وجامعات وازدحامات مرورية وقطارات ومناطق الإعصارات في العالم.. عندما تستطيع أن تطل وأنت موجود بمكتبك أو بمنزلك أو في سيارتك وأنت في الرياض أو جدة أو أبها أو حائل أو الدمام وغيرها من أي مكان في المملكة أو في أي مكان تكون في العالم وتطل على هذه المشاهد العالمية فأنت إذن أصبحت جزءاً من منظومة القرية الكونية بحق وحقيقة.
من جوالك الخاص تستطيع أن تطل على العالم، ولست بحاجة إلى شبكة الـ CNN أو قنوات الـ BBC أو شبكات وفضائيات تلفزيونية لتعرف ما يدور في العالم.. أنت الآن تستطيع أن تقوم بزيارات صباحية أو مسائية، في أول الليل وفي آخره وفي أي وقت تريد وتدخل لتعرف عن حجم الثلوج المتساقطة في شوارع فلندا، أو حركة المرور في طرقات ستوكهولم أو النرويج أو موسكو.. تستطيع أن تشاهد الليل في هيروشيما أو ملبورن بينما تطل من نافذه أخرى على لوس أنجلس وهم على الشواطئ أو في المطاعم أو الحانات الليلية، وحتى إذا أردت أن تحدق في نوع المشروب أو نوع الطعام الذي يتناوله رجل وزوجته أو صديقته وهما على طاولة في مطعم بهنغاريا أو نيويورك فأنت تستطيع.. وإذا أردت من باب الفضول أن تنتظر وتشاهد هولاء حتى تنتهي وجباتهم ومشروباتهم وسهراتهم فبإمكانك أن تقوم بذلك، ما عليك إلا أن تنظر وتنظر حتى يخرج آخر شخص من هذا المطعم.
إذا أردت أن تدخل في محل تجاري بأحد الأسواق التجارية في موسكو أو مدينة أخري بروسيا فأنت تستطيع، وما عليك إلا مراقبة هذا المحل وتشاهد من دخل ومن خرج من هذا المكان، وهل اشترى شيئاً، وتسطيع أن ترى بعينيك تدخل أو تطفل البائعات وهن يحاولن تقديم المساعدة.. كما تستطيع أن تشاهد من يمر أمام هذا المحل لأن الكاميرا تلتقط جزءاً من مشهد المارين من أمام هذا المكان.
ولو حدث أن سمعت عن إعصار في الولايات المتحدة مثلاً فأنت تستطيع أن تشاهد حركة الإعصار من عشرات الكاميرات الموجودة في أماكن مختلفة من المناطق الجغرافية التي يمكن أن يضربها هذا الإعصار.. فتستطيع أن تتعرف على حركة الإعصار وقوته ودماره في حالة أنه اجتاح مناطق تحت نفوذ وسيطرة هذه الكاميرات المنتشرة.
ولن تكون المسافة سبباً في حرمانك من مشاهدة أي مكان في العالم، فأنت تستطيع أن تشاهد برك السباحة في أحد فنادق هونولولو في هاواي أو حركة المياه على أحد شواطئ فلوريدا، أو إحدى منارات نوفا سكوتيا في كندا، أو أعلى قمم التزلج الجليدي في سويسرا، أو جزءاً من جماليات أحد الفنادق الإيطالية، أو منظراً ليلياً في فوجي، أو مشهداً لإحدى المدن في النرويج، أو منظراً لغابات كاليفورنيا، أو مشهداً لجماليات المدن الساحلية في إسبانيا، أو تساقط الثلوج على باحات استونيا في شمال أوروبا، أو أحد المنازل التراثية في النمسا، أو مشاهد الطرقات في كيب تاون بجنوب إفريقيا، أو أحد الجسور في العاصمة اليابانية طوكيو، أو القوارب المائية على شواطئ ايرلندا، أو بحيرة وانيتا في نيويورك، أو بحيرة توليك في ولاية ألاساك وهي مكسوة بالجليد.
وعن المطارات، أنت تستطيع أن تشاهد طائرة هيليوكبتر وهي تهبط في أريزونا أو مدرجات مطار بوكس في سويسرا أو هناقر الطائرات في منسوتا، أو برج المراقبة في الدانمارك، أو أحد المطارات الخاصة في هولندا، أو أحد المطارات الصغيرة في ولاية كولورادو، أو أحد المطارات البريطانية، أو مطار لوس أنجلس.. وأنا قبل قليل شاهدت نزول إحدى الطائرات العملاقة على أحد مدرجاته.. كل هذا على الهواء مباشرة ودون تدخل رقيب أو حارس بوابة.. فأنت الرقيب وأنت حارس البوابة لكل هذه الكاميرات..
أما إذا استهوتك المدن، فتستطيع أن تشاهد ميادين بلغراد في صربيا، أو ميناء القوارب في بوسطن، أو أحد الشوارع في إسبانيا، أو بعض المباني الشاهقة في أطلانطا بجورجيا، أو عمارة سكنية في تينيسي وتشاهد من يقف في إحدى شرفات إحدى شققها السكنية وإطفاء الأنوار داخلها بعد فترة. وتستطيع أن تطل على مدينة دنفر، أو أحد الأرياف في ألمانيا، أو أحد الأحياء الشعبية في إيطاليا، أو أحد موانئ فرنسا، أو قرى فلوريدا، أو طرقات إحدى مدن السويد، وتشاهد فيها حركة السيارات، وحركة المشاة، حتى أنك تستطيع أن ترقب المخالفات المرورية في أحد الشوارع لو وجدت. وتستطيع أن تشاهد إحدى الكاثيدريات في رومانيا، أو أحد الميادين المزدحمة في اليونان، أو مدينة في التشيك على أحد الممرات النهرية، أو تطل من أعلى برج التايمز في مدينة طوكيو، أو في مركز مدينة طوكيو داون تاون.
وإذا أردت أن تجمع تسع كاميرات في شاشة جوالك لتراقب تسع أماكن في العالم فأنت تستطيع عمل ذلك في نفس اللحظة، وحالما استرعى انتباهك مشهد معين تستطيع أن تدخل إليه مباشرة وتتفحصه وترضي فضولك في جزئيات مختلفة من هذا المشهد.. هذا فقط أحد البرامج التي تضعك أمام مشاهد مختلفة في العالم، ولكن هناك برامج أخرى عديدة تقوم بنفس العمل وتظهر نفس النتائج.
نحن على أعتاب مرحلة جديدة ونوعية من سطوة التقنيات الاتصالية وهيمنتها على ذهنيات الشعوب.. ولم تعد هذه التقنية ملكاً لمؤسسات أو دول، بل أصبحت مشاعة لدى مختلف فئات وشرائح شعوب العالم.. فاليوم أصبحنا نحن الذين نحدد ما نشاهد، ونختار ما نريد، وننتقي ما نرغب.. ولم يعد الزمن حائلاً دون أن نتنقل بين أي مكان في العالم ومكان آخر.. وكل ما نشاهده هو حقيقي، ولم يتم تعليبه، أو تضليله من قبل أحد، فهي مشاهد حية وعلى الهواء وفي نفس اللحظة.. نعم أصبحنا أكثر قدرة على معرفة ما يدور في العالم بدون رتوش أو تجميل أو تجمل.. والسؤال الأهم هو إلى أين تقودنا وتقود معنا كل البشرية مثل هذه التقنيات العصرية المذهلة..؟.
alkarni@ksu.edu.saرئيس الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية بجامعة الملك سعود