أُسْدِلَ الستار عن معرض “الحج: رحلة إلى قلب العالم الإسلامي”، الذي نظمه المتحف البريطاني بمشاركة مكتبة الملك عبد العزيز العامة، والذي افتتح في 26 يناير برعاية الأمير تشارلز ولي العهد البريطاني وبحضور صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نواف بن عبد العزيز سفير المملكة في
بريطانيا وصاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن عبد الله بن عبد العزيز نائب وزير الخارجية، وشهد حفل الافتتاح عدد كبير من الشخصيات السياسية والفكرية والعلماء، وتحدّد انتهاء المعرض في 15 إبريل 2012هـ.
لم يكن المعرض تقليدياً في فكرته أو في أسلوب تنفيذه، وكان مميزاً من حيث المعنى والمضمون والمقصد، وهدف المتحف البريطاني من تنظيمه إلى توضيح صورة مترابطة لشريحة كبيرة من المجتمع البريطاني- وفي مقدمتهم المسلمون البريطانيون والجاليات المتعدّدة في دياناتها وعقائدها -، وتعريفهم بالحج وشعائره بدءاً من العصور الإسلامية الأولى وحتى العصر الحاضر.
تناول المعرض طرق الحج البرّية والبحرية وتنظيم قوافل الحجيج، وعَرْضِ للتراث الحضاري الإسلامي المرتبط بالطرق والمسالك القادمة من أواسط آسيا وبلاد البلقان وشمال وغرب وشرق أفريقيا، والتي كانت جميعها تتصل بالجزيرة العربية حتى تنتهي في مكة المكرمة.
ولعل ما يثير الشجون ويحرك المشاعر، تلك الرحلات البحرية البعيدة التي كان يسلكها الحجاج عبر المحيط الهندي وبحر الصين وبحر العرب والقرن الإفريقي حتى وصولهم إلى ميناء جدة بوابة الحرمين الشريفين، بعد جهد جهيد ومشاق وأشهر وسنوات لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، ومنهم من كانت ترسو بهم السفن في الموانئ الواقعة على سواحل بحر عمان والخليج العربي وساحل البحر الأحمر، ويواصلون رحلات شاقة براً إلى مكة المكرمة.
وبيّن المعرض بطريقة مفيدة ومؤثرة من خلال الأفلام الوثائقية واللوحات والصور، الجهود التي بذلها الملك عبد العزيز (رحمه الله) في تنظيم شؤون الحج وسلامة الحجاج ورعايتهم، بعد توحيده للمملكة العربية السعودية.
اشتمل المعرض على نفائس من المواد التراثية والفنية المرتبطة برحلة الحج وتاريخه، وتفاصيل بناء الكعبة الشريفة وتطوّرها المعماري عبر العصور اعتماداً على المصادر التاريخية الإسلامية، مقرونة بصور بانورامية للمواقع والمعالم المعمارية والطبيعية في المملكة العربية السعودية المرتبطة بالحج، والتي أعطت قوة وتأثيراً للمعرض.
كما قدم المعرض، وبصورة شيقة، ومن زوايا متعددة، قصة رحلة الحج في العصر الحاضر، ومنها عملية التخطيط والتنظيم للحج وإدارته في المملكة العربية السعودية، مع تسليط الضوء على تنظيم رحلة الحُجّاج من بريطانيا إلى مكة المكرمة.
واشتمل المعرض كذلك على توضيح تاريخي لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحجّته إلى مكة في عام 632م، مع لوحات تاريخية مصوّرة ومرسومة للمسجد النبوي الشريف (ماضياً وحاضراً) ونصوصاً وشروحات عن تاريخ المسجد النبوي، مقرونة بعرض العديد من التحف والهدايا التي كانت تقدّم من قِبل الأفراد للمسجد والتي تحتفظ بها بعض متاحف الفنون المتخصصة.
وتَشَكّلَ العرض عن مكة المكرمة من عدة عناصر بطريقة متسلسلة ابتداءً من عصر إبراهيم الخليل، متناولاً تاريخ بناء الكعبة الشريفة والكسوة، والحج والتجارة، واقترن العرض بقطع من التحف المعمارية والأثرية والفنية المحفوظة في المتحف الوطني في الرياض ومتحف الحرمين الشريفين في مكة المكرمة.
ووضّحَ المعرض المعالم الدينية والعناصر المحيطة بالكعبة الشريفة وتاريخها، ومنها مقام إبراهيم وبئر زمزم، مقرونة بالرسوم والصور التوضيحية واللوحات الفنية وتذكارات وتحف فنية متنوّعة، مثل المنسوجات والسجاد والأسطرلابات والمخطوطات التاريخية والجغرافية والأدبية، واشتمل العرض لمحة عن تاريخ مكة عبر العصور، والعناصر السكانية، وممن جاور وأقام وتوفي فيها، وتم الاستشهاد بعدد من الأحجار التي نقشت عليها نصوص كتابية، توضح نصوصها أسماء الشخصيات التي عاشت في مكة، وممن تعود نسبتهم إلى البلاد والمدن التي ينتمون إليها في العصور الوسطي.
وعرّف المعرض بالحياة المعيشية في مكة خلال القرن التاسع عشر الميلادي، والصور الفتوغرافية التي التقطتها عدسات بعض الرحّالة الغربيين الذين زاروا بلاد الحرمين في تلك لفترة.
وتناول القسم الخاص عن تاريخ كسوة الكعبة عرضاً منهجياً لعناصر الكسوة المصنوعة في الماضي، وعرضاً تفصيلياً لصناعة الكسوة في الوقت الحاضر (مصنع كسوة الكعبة في مكة المكرمة).
وقدّم المعرض شرحاً جميلاً بمواقيت الحج التي يحرم منها للحج (والعمرة) وأركان الحج والمشاعر المقدسة ومشاريع التطوير في منى وعرفات وتوسعة الحرم المكي الشريف.
حقاً لقد كان تنظيم معرض الحج في المتحف البريطاني سابقة في حد ذاتها، وفيها تأكيد على أنّ التعاون البنّاء مع المؤسسات الثقافية في العالم، هو الوسيلة الناجعة لتوضيح الرسالة والهدف عن شعيرة الحج والدور السامي الذي تَشْرفْ به المملكة، ولهذا جاء اختيار مكتبة الملك عبد العزيز العامة ممثلة للمتاحف والجهات والمؤسسات الحكومية والأهلية والمتاحف السعودية في معرض الحج خطوة موفقة، وتمكنت المكتبة وبدعم وتشجيع مجلس أمنائها بالتنسيق وبمهنية عالية مع كافة الجهات ذات العلاقة في المملكة لضمان نجاح مشاركة المملكة في المعرض، ووجدت المكتبة التعاون والمؤازرة من عدد من الجهات وفي مقدمتها الهيئة العامة للسياحة والآثار ومتحف الحرمين الشريفين ومعهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج وجامعة الملك سعود، وعدد من الجهات المعنية الأخرى، ونتيجة لذلك التعاون، تم عرض قطع أثرية من آثار طرق الحج (درب زبيدة وطريق الحج المصري والشامي) ومن مواقع أثرية متعددة ومنها الربذة والمابيات، وقطع تراثية معمارية من الحرمين الشريفين وتحف فنية لها صلة بالحرمين الشريفين مثل مفاتيح الكعبة وقطع من الكسوة الحديثة وأفلام وثائقية ترصد شعائر الحج وصناعة كسوة الكعبة في العصر الحاضر، ومخطوطات ومصاحف من مجموعات هدايا الحرمين الشريفين وصور فوتوغرافية تاريخية ومخطوطات وأفلام وثائقية عن الملك عبد العزيز (رحمه الله) ووثائق مالية من البنك السعودي الهولندي متعلقة بحجاج دول جنوب شرق آسيا، بالإضافة إلى طباعة العملة الورقية في المملكة.
كما زيّنت المعرض صورٌ فوتوغرافية حديثة للمعالم والمناظر الطبيعية من المملكة وصور مفصلة للمشاعر المقدسة، كل هذه المشاركة تضمّنها المعرض جنباً إلى جنب مع روائع من تحف فنية من المتحف البريطاني ومتاحف أخرى ومن مجموعات خاصة.
ومن الفعاليات المميزة المصاحبة للمعرض ندوة علمية شارك فيها نخبة من العلماء من مختلف الجامعات والمؤسسات البحثية في العالم، حيث قُدِّمَتْ فيها بحوث ودراسات عن تاريخ وتراث وثقافة الحج على مرّ العصور، وعلى وجه الخصوص الآثار الباقية على طرق الحج، والمصادر الأدبية والتاريخية عن الحج، وكتب الرحّالة والمواد المصوّرة والقطع الفنية والمنسوجات وكسوة الكعبة ومجموعات المخطوطات.
لقد استقطب المعرض آلاف الزوار من مختلف أنحاء المملكة المتحدة ومن أوربا، وغُصَّ بأعداد كبيرة من الطلاب بمختلف مراحلهم العمرية الذين جاءوا وفق زيارات مجدولة لاستكشاف رحلة الحج وتراث الحج على مرّ العصور، والتعرُّف على التوسعات والتطوير للحرم المكي الشريف والمشاعر المقدسة والاطلاع على المشاريع التنموية الحديثة التي تخدم حجاج بيت الله الحرام.
وقد ساعدت الخطة الإعلامية والتربوية في المتحف البريطاني على تمكين المعاهد والمؤسسات التربوية في التعرُّف على المعرض بشكل تفصيلي، وقامت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بإنشاء موقع إلكتروني تفاعلي باللغة الإنجليزية والأردية، حيث قدم معلومات مركّزة عن تاريخ وتراث الحج والمشاريع التطويرية الجارية في مكة المكرمة والحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة.
وكان من حسن الطالع قيام صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز وزير الدفاع بزيارة خاصة للمعرض خلال وجود سموه في بريطانيا قبل إغلاق المعرض بأيام، حيث تجوّل سموه في المعرض ولمس عن قرب ثراء المعروضات وجمالية العرض.
لقد كَتبتْ ودَوّنتْ وسَجّلتْ وسائل الإعلام البريطانية والعالمية، انطباعاتها عن معرض الحج وتناولته من زوايا عديدة وأجمعت على أهمية الفكرة والهدف.
ومن واقع تجربة شخصية ومتابعة لتنظيم المعرض منذ أن كان فكرة يعمل عليها المتحف البريطاني، فإنّ المعرض ما كان له أن ينجح لولا توفيق الله سبحانه وتعالى ثم بدعم وتوجيه خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد حفظهما الله، وبمتابعة دؤوبة من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نواف بن عبد العزيز ورئيس فريق العمل معالي الأستاذ فيصل بن عبد الرحمن المعمّر مستشار خادم الحرمين والمشرف العام على مكتبة الملك عبد العزيز العامة.
وأجد لزاماً التنويه بجهود عدد من الجنود المجهولين الذين كان لهم الجهد الأكبر في المتابعة وإعداد المواد العلمية والنشرات التعريفية والشروحات التوضيحية والتدقيق والمراجعات المتعددة لمواد العرض المتحفي ونصوصها، وأخص من هؤلاء الدكتور عبد الكريم الزيد والأستاذ فهد العبد الكريم والزميلين الدكتور أحمد الدبيان مدير المركز الإسلامي في لندن والدكتور أحمد سيف الدين المستشار بالملحقية الثقافية في لندن والدكتور سعيد بن فايز السعيد عميد كلية السياحة والآثار.
أما المسئولون والمختصون في المتحف البريطاني، فالحق يقال إنهم يتمتعون بخبرة عالية في النواحي الإدارية والفنية والتنظيمية، والتعامل السامي والمهني العالي مع التراث الحضاري عامة ومع مواد معرض الحج على وجه الخصوص، ونخص بالشكر السيد نيل مكريجور مدير المتحف البريطاني والدكتورة فينيشيا بورتر مديرة القسم الإسلامي ومساعدتها السيدة قيصرا خان.
وأخيراً وليس آخراً فهناك شخصيتان قياديتان في بلادنا كانت لهما البداية في دفع مسيرة هذه التظاهرة الحضارية والثقافية والعمل على نجاحها وهما صاحب السمو الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد آل سعود وزير التربية والتعليم وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار.
أتمنى أن ينظم معرض الحج بمثل هذا المفهوم في دول أخرى من العالم، وفي الوقت نفسه أشعر أننا مقصرون في تنوير أبناء أمة الإسلام في داخل المملكة وخارجها برسالة الحج وشعائره وتراثه بنفس الأسلوب الذي عايشناه ولمسناه في المتحف البريطاني.
والله من وراء القصد،،،