كنتُ أسمع إبّان زمن (الصحوة الإدارية) في مطلع التسعينات الهجرية عن مصطلح (الموظف للوظيفة)، وقد توقّف ذهني طويلاً أمام هذا المصطلح محاولاً فهمَ مدلوله، وكنتُ يومئذٍ حديثَ عهدٍ بالوظيفة العامة: أدبياتٍ وممارسات، ومّرت أيامٌ تلتْها شهورٌ فسنينٌ، قبل أن أستوعبَ معنى ذلك المصطلح استيعاباً لم أسْتعْره من كتاب، بل أملتْه الممارسةُ الحقيقيةُ للعملية الإدارية في عمُومياتها وتطبيقَاتها، وتكوَّن لديّ نتيجة لذلك مفهومٌ سأحاول طرحَه عبر السطور التالية.
هناك سؤال (كلاسيكي) محوريّ يختزلُ حديثَ اليوم، ألخّصه في الكلمات التالية: هل الترقيةُ للوظيفة أم الموظف؟
وبمعنى آخر، ما هي الغاية المنشودةُ من الترقية في الوظيفة العامة؟ أهيَ مكافأٌة للموظف المرقَّى؟ أم رفعٌ لشأن الوظيفة التي رُقيَّ لها؟ أم هما معاً؟ وإذا كان الردُّ على عجز هذا السؤال إيجاباً، فأيُّ الغايتيْن أوْلى وأقوى تعبيراً عن معياريْ الحقّ والصواب؟!
بْدءاً، لا بد من التسليم بأن الردُود على هذا السؤال المركّب تتبَاينُ تباينَ مصَادرها، فمثلاً:
أولاً: هناك مَنْ يرى أنَّ الترقيةَ وسيلةُ (تكريم) للموظف، بقصد زيادة دخله وتنشيط معنويته، ولا يُعْنى دعاةُ هذا الرأي عمّا إذا كان الموظف المرقَّى راغباً في تحمّل أعباء الوظيفة الجديدة، مؤهَّلاً لها، أو قَادراً عليها! وقد تبلغُ حالةُ عدم الاكتراث لدى بعضهم حدَّاً يحرَّضُ الموظفَ المرقىَّ على عدم مباشرة مهام الوظيفة الجديدة، والاستمرار في أداء ما ألفه وعرفه تحت مظلة الوظيفة السابقة.
وأزعم أنّ لهذا الرأي مثالبَ خطيرةً، من بينها:
1) العبثُ بموضوعية الوظيفة بتسخير شغْلها لاعتباراتٍ شخصيةٍ لا علاقةَ لها بمقوَّمات الأداء! وتكون النتيجةُ شغلَ الوظيفة بمن ليس أهلاً لها، سواء مارس أعمالهَا أم لمْ يفعلْ، وما يترتَّب على ذلك من حرمان مَنْ هو كفءٌ لشغلها، وقادرٌ على أدائها!
2) الإساءةُ إلى هيبة الجهاز الذي تتبعه الوظيفة، وذلك بتحكيم (أحادية) المنفعة الشخصية على (عمومية) النفع العام، والخاسرُ هنا هو التنظيمُ، لأن إحْدَى مهَامه، ممثلةً فيما أُعتمِدَ له من وظائف، سُخَّرتْ لغرضٍ غير ما قُصدت به وله أصلاً!
3) التأثيرُ سَلباً على معنوية زمَلاء العمل الآخرين الذي يرون في هذا الضرب من الترقية حيْفا تنكره موضوعيةُ الأداء وجدارةُ التأهيل!
ثانياً: وهناك مَنْ يرى أن للترقية غرضاً رئيسياً ينصبُّ على الوظيفة لا الموظف، انطلاقاً من مبدأ أنّ الجدارةَ أساسٌ في شغْل الوظيفة العامة تعييناً وترقية، ومن ثم فإنّ الغرضَ من شغْل أيّ وظيفة بالترقية هو التفعيلُ للدور الممثَّل بها، والرقّيُّ بمستوى واجبات ومسؤوليات مَنْ يمارسُها، ويفْترضُ في هذا الحال أن يكونَ أهلاً لشغلها قدرةً وتمْكيناً، ومن ثم، فإنّ الترقيةَ بهذا المفهوم تغدُو وسيلةً لا غاية، هي وسيلةٌ تستثْمرُها الإدارةُ لبلوُغ أهدافِها وغَاياتِها عَبْر شاغليها، وليستْ وسيلةً لإسْباغ نفعٍ مبَاشرِ على الموظف بعيداً عن المهمة والغرض اللّذيْن أُحْدثِتْ من أجلهما الوظيفةُ أصلاً.
واسْتنْتَاجاً مما سبق، أقولُ إن الترقيةَ للوظيفة لا الموظف، والقولُ بغيْر هذا أو العمل ضّده يفْسِدَان الغرضَ منها، ويعطَّلان مهمة الجهاز الإداري في بلوُغ غايتِه خدمةً للناس من خلالها، ولا ريْبَ في أنّ تجاوزَ الموظف حواجزَ الترقية وشروطها التنظيمية بجدارة ونجاح يمْنحُه كَسْباً معنوياً.. داخل نفسه وأمام الآخرين، فلا يجُد أحد لإحراجه أو إدارته سبيلاً!
وبمعنى آخر، للترقية غُنْمٌ ماديُّ وتفَوّق معنويُّ للموظف المرقَّىَ، لكن الوظيفةَ العامة تظل في كل الأحوال، وصفاً وأداءً، هي المسيَّر للترقية والفاعلَ لها، وليستْ جسْراً لتمرير منافعَ ذاتيةٍ يكون الفائزُ الوحيُد فيها الموظفَ المعنيَّ دون سواه!
أخيراً، أزعمُ أنه ليس في الخدمة المدنية قواعد تنكر سُنَّةَ التغيير عدا ثوابت التأهيل والجدارة، ومن ثم فإنّ قواعدَ وإجراءاتِ الترقية يمكن أن تُقوَّم وأنْ تتغيرَ تبعاً لتغير ضوابط الأداء ومناخ الوظيفة شريطةَ ألاّ تكون العشوائيةُ مسيَّراً للتغيير، أو يكونَ التغييُر نفسُه غايةً لا تسَّوغُها مصلحةُ عامةٌ ولا يسيّرها حسُّ علميّ متين.