الصِّلات والعِلاقات بين الدول والشعوب تشبه إلى حد كبير تلك التي هي عادة بين الأفراد، فهناك علائق تقوم على أسس تاريخية أو أسرية أو دينية أو مصيرية، ولكن ما يقوم على مصالح مشتركة ومنافع متبادلة هو الشكل الأقوى والأمكن، حتى بين فرد وفرد في كثير من الأحيان.
ومن الطبيعي أنه لن يبقى الحال على ما هو عليه إلى الأبد، من الصفاء والانسجام والود المتبادل؛ فقد تأتي الرياح بما لا يشتهي السَّفِن، وقد تنقلب بعض الموازين، ويفقد هذا الطرف أو ذاك توازنه؛ فيتحول الود إلى حقد، وتصبح المحبة مسبة، وتطغى السيئات على الحسنات، وتُبعث المعايب، وتكثر المصائب، ويشتد التأزم؛ فتبدأ الإحن، وتحل المحن، وتصبح الشدة والردة هي سيدة الموقف:
ليس البلية في زماننا عجب
بل السلامة فيها أعجب العجب
لا يوجد في هذا الوجود ما هو خير كله أو شر كله؛ ولهذا فإن ما يشوب علاقات دولة بدولة، أو شخص بآخر، من خلل واضطراب، هو في صورة أخرى مغايرة، تكون إيجابية؛ فتعكس قدراً ما من الاختبار والتمحيص لمشكل قائم، وفيه من الفوائد ما لا يُعَدّ ولا يُحَدّ:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
في المحن والشدائد، تعرف الدول ويعرف الناس، من هو العدو؟ ومن هو الصديق؟ من هو المبغض؟ ومن هو المحب؟ الأعداء والأصدقاء والمبغضون والمحبون.. الكل يظهر في أوقات الشدة وساعات المحن. الأعداء يجهدون في الإكثار من الإعثار، ويحبكون المؤامرات، ويحكمون الأطواق. المبغضون يجاهرون بالكره، ويصفقون شماتة، ويسيئون ولا يحسنون، بينما يقف الأصدقاء والمحبون الحقيقيون معاضدين مقيلين، معذرين غير محبطين، منافحين ومدافعين:
رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في عِِشار من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال
في الشدائد فوائد، وفي المحن منح، فكم من دول وشعوب ومجتمعات كثيرة ابتليت بجهلاء وسفهاء، ونكبت بمتسفلين ومتسلقين ومنحطين، جلبوا على دولهم وشعوبهم وأنفسهم شدائد عظمى، ومحناً وبلوى، مع دول وشعوب وأفراد وأطراف أخرى، كانت لهم فيما مضى ودودة صدوقة، محبة غير كارهة، حتى ارتفع صوت القلة، فعطل مصالح الكثرة، إلى أن بان الحق وزهق الباطل، فبرزت فوائد لا تحصى، أهمها معرفة الحق من الباطل، ومعرفة من هم الأعداء ومن هم الأصدقاء، ومعرفة بعض الخلل في الأزمة، وهو حسن الظن في من لا يصح فيهم إلا سوء الظن، فسوء الظن - كما قال الأولون - من حسن الفطن:
وحسن الظن يحسن في أمور
ويمكن في عواقبه ندامه
وسوء الظن يسمج في وجوه
وفيه من سماجته حَزَامه
العقلاء وحدهم هم الذين يتحلون بالصبر، ويتسامون بالحكمة، ويترفعون عن الدنايا، وينحنون للعاصفة ثقلاً لا خفة، وقوة لا ضعفاً، حتى تصحو الأجواء الملبدة من حولهم؛ فتتضح الصورة، ويظهر للعيان، ما أفرزته العاصفة الهوجاء من غثاء، فغدا هباءً منثوراً تجلوه الرياح، وما أبقته من زبد فهو نافع مفيد:
وإذا تصبك من الحوادث نكبة
فاصبر.. فكل بلية تتكشف
ومن فوائد الشدائد ومنح المحن علو أهل الحق ودنو أهل الباطل، وتقدم أهل العقل ونكوص أهل الجهل، وظهور الأفعال على الأقوال، وانتصار الحليم على الغليم، وتمحيص الخاصة والعامة، وفرز الخبثاء من النبلاء، وبيان الأوفياء من السفلاء، ومعرفة من هم الأعداء ومن هم الأصدقاء:
جزى الله الشدائد كل خير
عرفت بها عدوي من صديقي
وعلى صعيد فردي، فقد يُفجع المرء فيمن ظنه ذات يوم من ضمن إخوانه وأعوانه وأصدقائه، خاصة وقد سبق أن محضه حبه ووده وثقته، فإذا هو صلّ سام، وثعبان هام، وعنوان للخيانة والغدر. كما قد يُفجع الكل في واحد، حين ظنوه أديباً أو مفكراً أو فقيهاً أو عالماً نحريراً، وخطيباً مفوهاً، فإذا هو ينقلب رأساً على عقب، ساعة هزيمة نفسية مع ذاته الأمَّارة بالسوء، إلى حاقد حاسد سباب شتام، ناكر للجميل، متجرد من الحب والود والولاء، منفر من الجماعة، محرض على الفتنة، ناشر للفساد، مجانب كل فضيلة، ناشر كل رذيلة، وهذه الحالة وتلك، وإن كانت من المحن والشدائد في حياة الأفراد والجماعات، إلا أنها لا تخلو من منافع وفوائد، من بينها افتضاح أصحاب الغدر، وانكشاف المدعين والمزيفين:
من تحلى بغير ما هو فيه
فضح الامتحان ما يدّعيه
وإذا ابتليت الشعوب والجماعات وحتى الأفراد بمثل هذه المحن فعليها أن تبحث في وجهها الآخر المليء بالعِبَر والعظات والدروس؛ ففي كل عبرة منفعة، وفي كل عظة فائدة، وفي كل درس عِرس. عِرس لمن أراد أن يحتفل بالتخلص من مرض معد كان يلم به؛ فالمحن والشدائد كالنار التي تعري أصحابها حتى يظهروا على حقيقتهم:
محن الفتى يخبرن عن فضل الفتى
كالنار مخبرة بفضل العنبر
assahm@maktoob.com - Assahm1900@hotmail.com