في الاتحاد قوة، شعار يتعلّمه الأطفال في المدارس ثم ينسونه بعدما يكبرون ويصبحون في أمسّ الحاجة إليه. في هذه الأيام يجتمع المسؤولون الكبار في دول مجلس التعاون الخليجي للتباحث في تحويل الروابط من مجلس تعاون إلى اتحاد. أسأل الله أن يبارك لهم في الوصول إلى النتيجة التي تتمنّاها شعوبهم منذ زمن طويل، وقبل أن تختمر الفكرة في رؤوس رؤسائهم.
الملك الصالح عبد الله بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية، رجل حكيم عركته التجارب وامتلأ عقله وقلبه بالقلق على مصير عرب الخليج، ممالك وسلطنات وإمارات وشعوباً، القلق مما يتربّص بهم من احتمالات الضياع والتفكًّك فرادى في قادم الأيام. هذا الملك بحسِّه الاستشرافي للمستقبل يستنتج من المآلات السيئة التي بدأت بوادرها في دول الجوار العربي، أنّ الدور لا شك قادم نحو دول مجلس التعاون الخليجي. من حولنا قوى كبرى أشدّ منا بأساً وأكثر عدداً وأكبر عدّة، تتصارع فيما بينها، لكن ليس على ما بداخلها هي وما هو حق لها، وإنما على حقوقنا وما عندنا نحن. هم يتصارعون في حلبات السياسة العالمية، ومن ضمنها الحصار والتأليب ومحاولات الخنق والتهديد باستعمال القوة، لكن صراعهم كله وبالكامل يهدف إلى اقتسام تركة الميت العربي بعد الإجهاز عليه. إلى جانب الطمع الجغرافي والسياسي والاقتصادي يجمعهم كلهم وهم في حلبة الصراع، كرههم المتفق عليه واحتقارهم المبطن للعرق العربي، واستكثار الاستقرار والتحضُّر والتقدم عليه.
دعونا الآن من استثارة العواطف لننتقل إلى الفكرة نفسها، فكرة التجمُّع في اتحاد يجمع كل عناصر قوة عرب الخليج في كتلة واحدة. هذه الكتلة الضامة لسكان وجغرافيا وعقول وثروات دولة خليجية عربية اتحادية، من المفترض والمنطقي أنها سوف تكون نواة خير تفتح إمكانياتها لكل القوى الخيّرة، وتؤسس لكيان جديد ومختلف يستطيع الدفاع عن نفسه أولاً ثم المساهمة في الدفاع عن الجغرافيا والحضارة والجنس العربي الذي تردّت أوضاعه واستضعف أكثر من أي جنس آخر في العصر الحديث.
ما هو الاتحاد المنشود، وهل يعني تذويب الكيانات الصغيرة في كيان واحد مسيطر، وهل يتوقع منه طغيان طرف أو مذهب أو منهج حياتي على الكيانات الأخرى؟. أعتقد أنّ ما يخطط له إن تحقق بإذن الله، سوف يكون تنوّعاً قوياً ثرياً له هيبة وفعالية حقيقية، والموضوع يحتاج إلى أمثلة للتوضيح.
دولة الإمارات العربية المتحدة مثال حي وحيوي على نتائج الاتحاد الإيجابية. ما قبل اتحاد الإمارات العربية المتحدة، كان هناك تشرذم وخلافات حدودية وحزازات أُسرية عائلية ومكائد متبادلة وتحالفات متضادة. كان ثمة غنى في مكان أو مكانين وفقر مدقع في الأماكن الأخرى. بعد التحول إلى الاتحاد كسب الجميع، كسبوا الهيبة الجماعية والمشاركة في الثروة وخطط التنمية، وفوق ذلك احتفظ كل كيان قديم بعد دخول الاتحاد، بما يرغب فيه ويحبه من خصائصه القديمة على مستوى الحكم المحلي وسكان إمارته كمجموعة وأفراده كخصوصيات شخصية وقناعات اجتماعية ومعيشية.
لكن هل يكفي الاستدلال على ميزات الاتحاد بدولة من داخل المجموعة، أم قد يكون من الأفضل الاستدلال بدولة اتحادية أخرى بلغت حدّ الكمال في تحقيق أهدافها الوطنية، وأعني دولة ألمانيا الاتحادية. تتكوّن دولة ألمانيا الاتحادية من ست عشرة ولاية، لكلِّ ولاية حكمها واستقلالها الداخلي فيما يخص الانتخاب البرلماني والأمن الداخلي وكل الوزارات والمؤسسات الإدارية والاجتماعية بما في ذلك النظام الصحي والتعليم وتنفيذ الطرق والمواصلات. باختصار، تمتلك كل ولاية من الولاية الست عشرة حكومتها المحلية المتصرفة في شؤونها، ماعدا الدفاع والخارجية والبنك المركزي والتمثيل داخل الاتحاد الأوروبي، قتلك أمور متروكة للحكومة المركزية في برلين. هذه الحكومة المركزية بكل مكوّناتها الأساسية والفرعية منتخبة من جميع سكان الولايات الألمان، وتتمثل فيها كل البرلمانات الفرعية بمندوبين عن الولايات الفرعية. النجاح المذهل لهذا التركيبة الاتحادية الوطنية عجّل في سقوط ما سمُّي سابقاً ألمانيا الشرقية وفي انضمامها إلى الدولة الاتحادية. لو لم تطبق فكرة دولة الاتحاد الألمانية منذ السنوات الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، لأصبحت ألمانيا ألعوبة في الأيادي تستعملها القوى الكبرى ودول الجوار في مناوراتها السياسية والاقتصادية، ولما تحقق الإنجاز الكبير الحقيقي، وهو الاقتصاد الإنتاجي الجماعي الذي أصبح يتحكم باقتصاديات أوروبا كلها وليس العكس.
في الاتحاد قوة، والشعوب في دول مجلس التعاون الخليجي لا تتهيّب منه، بل هو مطلب حقيقي وأصيل وقديم لها. شعوب دول التعاون سلّمت كل مقدّراتها وأقدارها بعد الله إلى أيدي القائمين على تدبير شؤونها، وعليهم تقدير كبر الأمانة وثقلها وما يعنيه ذلك للمستقبل. وفق الله الجميع لما فيه رفعة العرب وصلاح أمورهم.