بعث أحد الأصدقاء مقالاً رائعاً كتبه عبدالرحيم صادقي ونشره في صحيفة رابطة أدباء الشام الإلكترونية التي تصدر من لندن، عن العقدة التي تستحوذ على جُل تفكير أشباه المثقفين، يقول كاتب المقال: إنها عقدة مستحكِمة في النفوس، لاينجو منها إلا من شملته لطائف الله تعالى،
لكنها عقدة خاصة وليست عامة، فهي لا تصيب غير المثقفين، أو أشباه المثقفين على الأصح. ولقد عافى الله منها الإسكافي واللحَّام وبائع السمك.
فما حقيقة هذه العُقدة؟ حقيقتها أن ترى المثقف أو شبيه المثقف وقد تَمَلَّكَهُ هاجسُ سيرته الذاتية، فتجده يسعى السعي الحثيث لتغدو سيرته أضخم السير. ذلك أن الترقي في مناصب الدنيا بلا شواهد ولا أعمال مشهودة من المحال، صحيح أنها شواهد من ورق وأعمال فارغة، لكنها ضرورية. وشبيه المثقف هذا هو أول من يشهد بذلك، لكنه سيجيبك إذا ما سألته: لِمَ كل هذا الحرص على اصطناع مجد وهمي؟ بقوله: إن بلدنا بلدُ الفرص، وقد لا تواتيك هذه الفرصة أبد الدهر. فعليك باقتطاف الثمر متى ظهر! ستقول له: لكن الثمر لا يقطف حتى ينضج. وشبيه المثقف لا يعدم جوابا. سيرد عليك قائلا: إلى أن ينضج يكون قد صار إلى غيرك. ألا ترى أن المتربصين يملؤون الآفاق؟ وأكثرهم يدق الأبواب ويُقبِّلُ الأيدي؟ وكثير آخرون قد تسلحوا برسائل استعطاف وتوسل؟ ستقول له: وكرامة الإنسان؟ وعزته؟ وأنفته؟ سيقول: بضاعة كاسدة. ومن اتكل عليها كان نسياً منسياً. سترد: ومتى كان الظهور مقصدا؟ وكيف يكون الترقي بلا سبب؟!
سيقول: أنتوارى إذن ولا يعلم بموتنا أحد؟ ستقول: يسعى إليك الظهور ولا تسعى إليه، وتُحَصِّلُ شرائط الترقي حتى لا تكون صعلوكا، فذلك المطلوب. سيتمادى في لَجَجه ويقول: وماذا تريدني أن أفعل؟ وبماذا يمتاز عنا الآخرون؟ لماذا لا تزاحمهم في أماكنهم؟ ستقول: أنا لا أصلح لذلك، فلستُ في القومِ الأخص. سيقول: ومَن منهم اختصَّ بشيء؟ كلهم يخبطون خبط عشواء. ستقول: هذا خيارهم، وعليهم تحمل عواقب أفعالهم.
سيُوَدِّعُك شبيه المثقف قائلا: لن نتفاهم، وأنا بريء ممَّا تَدين. سيودعك عازما على رحلة التسلق، يحث السير نحو المجد المختلَق. يُوهِم الآخرين بثقافته، جالبا الأنظار بحركاته التي لا تنتهي. لكنه عبثا يحاول، أليس يُعوِّل على غباء الناظرين؟!
ستبدأ رحلة النُّهَز لديه بمقال رديء في جريدة محلية. ثم تتراكم رداءاتُه حتى يصيركاتبا محليا، فيُدعى لمحطة تلفزيونية. سيبدأ خجولا متواضعا، لكنه سيُنهي عامَه متبجحا يخوض في كل المواضيع. يُدعى إلى الحديث في أزمة العالم الاقتصادية فيلبي الدعوة منشرح الصدر. وهو الخبير إذا ما دُعِي لمناقشة أزمة البطالة، وهو المُنَظِّر لأسُس الدولة الحديثة، ومسألة الديموقراطية في الوطن العربي وحقوق الإنسان. وهو العارف بخبايا البلد وعادات المجتمع. فما يكاد العام ينصرم حتى تراه ينظم ندوة عالمية حول الإرهاب والسلام العالمي. ورغم أن معظم المدعوين من الأجانب سيعتذر عن الحضور، فإن عالمية ندوته لن تشوبها شائبة. ثم إن ذلك لا يهم، أليس قد اجتمع بضعة أشخاص، وتداولوا الكلام في ما بينهم؟ أليست وسائل الإعلام قد تداولت خبر اجتماعهم؟! ففي ذلك كل الكفاية.
تذكرت على الفور ذلك العشق والهيام والحب الذي يتملك بعضهم للسعي الحثيث نحو البروز والشهرة عبر خروجهم المتكرر على شاشات القنوات الفضائية بمناسبة أو من غير من مناسبة، وطرقهم لكل باب، وركضهم المستمر الذي لا يخلو من التنازل عن كل المبادئ والقيم وتقديم التضحيات، من أجل الحصول على منصب يوفر لهم الأمان المزعوم والملاذ المزيف والهيبة المشتراة. وما أن يصل لمبتغاه حتى تجده يستكين وتطيب له الإقامة ويطيل المكوث موظِفاً إمكانيات المنصب العظيمة في تحقيق مأربه متناسياً، أن فعل البقاء قد لا يستمر وما هي إلا صفحة سيتم طيها ونسيانها، بل ربما قلبها بذات السرعة فيجد نفسه منقلباً على وجهه تمهيداً لبلوغ سلف له.
وهناك من أوتي شيئاً من بعد النظر والحنكة، فأدرك منذ البداية أن المهلكات تكمن في المغريات، فرفاهة ومزايا المنصب الذي احتال كثيراً للوصول إليه يحمل الحسنة والسيئة على حد سواء، بل ربما حمل المذلة والسقوط المهين بذات المقدار من العزة والمجد، وهم لذلك يتخذون - سلفاً - كل الاحتياطات اللازمة لاستمراهم أطول فترة ممكنة. وقد يشغلهم ويلهيهم ضرورة التزود من الموجود تحسباً للمفقود، ومن عاجلتهم المغرية إلى آجلتهم المقفرة والتزود بكل أنواع المكاسب قبل أوان الخسائر.
أما القلة القليلة تلك الفئة التي سعت المناصب إليها، ولم تسع هي لها، لم ترق من أجلها ماء الوجه، ولم تسفح لها الكرامة، بل كانت الكفاءة والجدارة طريق الوصول إليها، والعفة والنزاهة وسيلة البقاء عليها، فكانوا أزهد الناس فيها، وأقلهم حرصاً عليها وتشبثاً بها.
يؤمنون بحقيقة خداع مظهرها، ووهم الاطمئنان إليها، وأن انقلابها وشيك، وأن زوالها سريع وأن دوامها مستحيل، ويوقنون أن الرزق الذي قُسم لهم لا يفوّته تسمين سيرة ذاتية أو بذل المساعي الغالية، وأن الذي قضي عليهم لم يكن ليخطئهم، ولذا فإنهم حريصون على تقديم النفع للناس دون مَن ولا أذى وتحاشي وقوع الظلم وتحري الحلال والابتعاد عن الحرام مما يُبقي أيديهم نظيفة ونفوسهم عفيفة، ديدنهم الإخلاص، وعقيدتهم التقوى، ومنهجهم العدل بين الجميع.
لذا تجدهم مطمئنين، يتحركون دونما وجل ولاخوف، و ينامون قريري العين، لا يخشون انتقام مظلوم أو غدر محتال ولا يخافون مساءلة من غير رب العباد، فيحرسهم عدلهم وينصفهم إخلاصهم وتؤمّنهم عقيدتهم.
وحسبي أن لسانهم يردد قول الشاعر:
وإذا غلا شيء عليّ تركته
فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
وأختم باقتباس آخر من المقال المذكور - في مقدمة مقالي هذا - حينما قال صادقي: نعم، إنها عقدة السيرة الذاتية. وفي سبيلها يُباح التهافت والتكالب. لكنك حينما تَذْكُرُ اسبينوزا لا جَرَمَ أنك ستُكْبِرُ عيش الكفاف من صقل العدسات، ثم تقول: ويحك يا شبيه المثقف! لو كنتَ أنت مكانه، أكنت تعتذر عن قبول هدية لويس الرابع عشر؟ أكنت سترفض تقديم إهداء كتابك له؟ أكنت سترفض كرسي الفلسفة في جامعة هايدلبيرج؟ ثم فجأة تَذْكُرُ مَن رفض القضاء والمناصب مِن السلف، ومَن زهد في الولايات والإمارات، فتُشْفِقُ على هؤلاء وترثي لحالِهم. ألا ما أصغر هذه النفوس!، إلى لقاء قادم إن كتب الله.
dr.aobaid@gmail.com