يمن الله جل شأنه على من يشاء من عباده فيجعلهم أئمة الدين. وهي منة عظيمة امتن الله جل شأنه بها على إبراهيم عليه السلام فقال {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}. وقد أدرك إبراهيم عليه السلام عظم مكانة هذه المنة فسأل ربه أن يجعلها لذريته قال {وَمِن ذُرِّيَّتِي}، فجعلها سبحانه في ذريته {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}، لا ذريته كلها، يختص منهم بفضله من يشاء.
وقد امتن الله بفضله وكرمه على الشيخ محمد بن عبد الوهاب فجعله إماما للمتقين. وقد علت همة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فكان التوحيد همه، فجعله الله مجددا لدعوة إبراهيم عليه السلام ومن بعده من الرسل ختاما بنينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم. ودعوة التوحيد دعوة ربانية معجزة. فهي على بساطتها وسهولتها إلا أنها عظيمة شاملة، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}.
ومن تمام دعوة التوحيد في تجريد العبودية لله، توحيد الله في أحكامه المتعلقة بالمعاملات. ومن تمام المنة على الشيخ محمد بن عبدالوهاب أن يأتي من ذريته من يكمل دعوة التوحيد كما من على إبراهيم عليه السلام من قبل. والرجال تترك لأبنائها المال والجاه والملك، وأعظم الإرث وأدومه -على تقلب الأزمنة والأمكنة- هو إرث الإمامة في الدين، لذا فأعظم التضييع تضييع إمامة الدين. والله هو مقسم الأرزاق «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء». والله هو الذي جعل عباده خلائف الأرض ليتخذ بعضهم بعضا سخريا. فإذا أراد سبحانه الخير لشيء، سخر له بقدرته من يخدمه، فسخر الله لدعوة الشيخ من يخدمها سرا وعلنا، والحصيف من يُسخر الألمعي المستقل لا البليد الموافق، «وَأَرحَمُ أَقواماً مِنَ العِيِّ وَالغَبا... وَأَعذِرُ في بُغضي لِأَنَّهُمُ ضِدُّ».
والمتأمل لحكمة الله سبحانه يتبين له أنه سبحانه جعل لكل زمان ما يناسبه من الدين الخاتم. فهناك عصر التشريع، ثم من بعده عصر صناعة الدين في القرون الأولى المفضلة ثم الجمود على ذلك مع نهايات القرن الأول للهجرة. وقد كان هذا الجمود مناسبا للجمود في التطور الإنساني، فالإنسانية لم تتجاوز البدائية إلا في العقود الماضية. والمتأمل في النصوص الشرعية في المعاملات يجدها تناسب واقع اليوم كما كانت تناسب واقع الأمس بشرط تنزيلها تنزيلا منضبطا خارجا عن الأهواء والثقافات والسياسات، وهذا هو الإعجاز الرباني.
وقد كانت دعوة الشيخ محمد رحمه الله هي الأساس والبداية والمنهج لإحياء صناعة الدين، وكانت دعوته كذلك هي المقدمة التي ثبتت العقيدة ورسمت المنهج لما يجب إكماله اليوم من إحياء لصناعة الدين، ووضعت الرؤيا، «لا تجعل بينك وبين الله أحد». وقد وجبت الحاجة اليوم لإحياء صناعة الدين مع انتقال البشرية من حالة البدائية إلى حالة التطور الهائل في العلوم الإنسانية. لذا فإحياء صناعة الدين من جديد هو لازم حتمي لبقاء الدين بعد انتقال الإنسانية من البدائية إلى مدنية اليوم، والإسلام خاتم الأديان فسيسخر الله لدينه من يصطفيه لخدمته، فهو أمر حاصل لا محالة. ودعوة الشيخ ومنهجه ليست حكرا على أحد -فهي دعوة إبراهيم عليه السلام ومن بعده من الرسل-، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء ويحرمه لمن لم يقدره حق قدره، {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ }.
العالم الإسلامي على فوهة بركان فكري قد ينحرف بالمنهج الديني إلى الأشخاص أو إلى الفوضى اللامنهجية (وهو الأغلب). وقد جاءت الثورات العربية لتفرز عن مجتمعات تبحث عن الحرية الفكرية، فهي تبحث عمن يُمكنها من فهم دينها بنفسها. فالمنهج الذي سيخلصها من رق التبعية للفقيه ويسمح لها بالمشاركة في صناعة الفتوى سيكون هو المنهج الفائز. والمنهج القادر على ذلك هو المنهج الذي يقدم هذا المزيج بين العبودية المطلقة لله في الالتزام بالنصوص الشرعية مع الحرية التامة في استخدام العقل والعلم في تنزيل النصوص والمشاركة في الفتوى عن طريق تزويد الناس بالأدوات الميسرة المبسطة. ولن تستطيع أي مدرسة فكرية دينية مهما كانت أن تفعل ذلك إلا إذا جمعت بين الصورة الأصلية (لا الصورة المطبقة المجمدة حاليا) لفكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التسليم المطلق للنص الشرعي مع تنزيلها بالصورة العلمية التجريبية الصحيحة وإثبات إعجاز التشريع بموافقتها للمصالح الظاهرة في حياة الناس.
ومن المسكوت عنه، أن هناك فراغا كبيرا في المرجعية الدينية سيخرج مع استقرار الاضطرابات في بلاد العرب، فعدم الثقة في الحكومات والخروج عليها قد لحق المؤسسات الشرعية الرسمية من دور الفتوى والمعاهد والمناهج الدينية التابعة لها. وقد جاء دور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لتملأ هذا الفراغ إذا تخلت عن الجمود فجمعت بين حجية النص وغلبة المنطق.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem