جاءتني ترتعد.. إنها جارتنا ربه المنزل ذات التعليم المتوسط، لكنها تظل من جيل يستخدم الإنترنت، وينتمي للطبقة المتوسطة، ويحرص على تربية أبنائها في بيئة إسلامية معتدلة. جاءتني بوجه ممتقع، تشكو هول المفاجاءة التي صعقتها، كيف..؟؟
حادثت شركة الكيبل الموجود في منزلهم لإصلاح عطب فيه، وأرسلوا لها هذا العامل من جنسية عربية. كانت هناك بعباءتها ونقابها مع ابنها ذي السنوات التسع؛ حيث إن زوجها في عمله في ذلك الوقت، وطلبت من صغيرها أن يفتح باب السطح للعامل، ويريه الدش، وخلال ثوان نزل ابنها يسب في هذا العامل القذر الذي حاول التحرش به ولمس مناطقه الحساسة.. هكذا بهذه السرعة والمباشرة دونما أي ضمير أو إحساس من رجل متزوج، ولديه هو نفسه أبناء، وأمام أُمّ الصغير التي تقف على بُعد خطوات.. ما هذا المجتمع المسعور برغباته الحيوانية التي تشل كل قدرة على التفكير أو التبصر أو قياس الأمور بمنظور أخلاقي أو ديني؟.. تقول الأم المفجوعة: ماذا أفعل؟ حرمته من الذهاب حتى للبقالة خوفاً مما قد يحدث، ولخلو شوارعنا من المارة إلا من عمال بلدان مختلفة، حرموا من عائلاتهم لفترات طويلة، فكيف أرسل الصغير لهم لقمة سائغة.. اضطررتُ لحرمانه من الصلاة في المسجد القريب منا بعد تحرش من في المسجد به. وبعد أن حدث ذلك بدأت حديثاً صريحاً مع ابنها حول كل مظاهر التحرش التي قد يتعرض لها من الذكور، وهو الذي ساعد الابن على أن يتصرف بسرعة ضد هذا المعتدي المجرم؛ فحمى نفسه.
نحن جميعاً في وضع لا نُحسد عليه؛ فصغارنا ذكوراً وإناثاً يحيط بهم الأغراب وحتى المقربون ممن قد يؤذونهم دون أية روادع أخلاقية.. هناك السائق الذي يصبح بعد فترة مألوفاً؛ فلا يستبعد أن يقوم بعضهم بالتحرش (بالطبع لا تعميم في مثل هذه القضايا الحساسة التي لا يعترف أحد بوقوعها شخصياً له).
هناك حراس المؤسسات المختلفة التي يتعامل معها أطفالنا كل يوم.. هناك العمال المتفرقون في كل أجزاء حياتنا، وحتى هؤلاء الغرباء تماماً، الذين يؤدون أعمالاً مؤقتة مثل عامل الدش كلهم يمثلون خطراً حقيقياً يتهدد الأطفال في مراحل حياتهم المختلفة. حُرم الأطفال من متع بسيطة، كأن يتجولوا في شارعهم وحول بيوتهم، ويتعرفوا على مَنْ حولهم؛ بسبب هذه الأزمة الأخلاقية التي تنبئ عن تضخم المفاهيم الأخلاقية في الخارج (خارج حدود الذات)، وتسمع المؤسسات تصرخ بها في كل مناسبة، لكن دواخل الكثير من الأفراد خاوية تماماً من معاني هذه القيم؛ لذا نجد أنه لا قيمة فعلية لأية روادع دينية ولا مجتمعية ولا قيم إنسانية شاملة حينما يكون هذا المفترس المحيط بنا في كل اتجاه وحده دون مراقبة مباشرة من أحد أو قانون، ويكون أمامه فريسة ضعيفة مثل الأطفال؛ فلا يتواني عن افتراسها؛ فما عسانا نفعل نحن المجتمعات والمؤسسات؟؟
كل ما نفعله هو أن نتصور أن هذا الأمر (الفظيع) يحدث بالطبع للآخرين، لكنه لن يحدث لأطفالنا نحن أبداً، بمعني أننا نخلق هذا الوهم ونصدقه دائماً، وحين يأتي الأمر على أطفالنا فلا يمكن أن يحدث لهم هم شخصياً، ونختار أن نضع رؤوسنا كالنعام في الرمال؛ لذا فلا أحد يتخذ خطوات عملية لإنقاذ هؤلاء الأطفال بشكل جماعي، وتوفير بيئة آمنة مطمئنة توفر للطفل والمراهق خبرات آمنة في بيئته المحلية المباشرة.
هذه ليست مبالغة في الخوف بل تحديداً لها؛ لأن الكثير من الأطفال والمراهقين، خاصة الذكور؛ كونهم يتحركون خارج دائرة المنزل بشكل أسهل وأقل تحكماً من الأهل، يمكن - أقول يمكن - أن يكونوا عرضة لأنواع من التحرش الجنسي، وربما الاعتداء الذي قد يخجلون من الإفصاح عنه في البداية خشية الفضيحة الاجتماعية أو سخرية أقرانهم أو تشديد أهلهم وتدريجياً يصبحون هم جزءاً من هذا العنف، ويتعودون عليه، وتفسد طبيعة التهيئة الذهنية الجنسية لديهم؛ بسبب ممارسات خاطئة تعرضوا لها في الصغر؛ فيفقدون متعتهم بالحلال حين يكبرون، ثم يتحولون هم أنفسهم إلى معتدين خطرين في كِبَرهم؛ إذ إن البحوث تؤكد واحداً تلو الآخر أن ضحايا العنف الجسدي أو الاغتصاب يصبحون مغتصبين حين يكبرون.
من الواضح أن المؤسسات العامة تتناول هذا الموضوع على خجل ومواربة تتناسب مع نسيج اجتماعي يبني وجوده على التضخيم والصراخ، لكنها لا تقدِّم مكاشفات وحماية حقيقية للأطفال والأهالي. لا أحد يريد أن يصل طفله إلى مرحلة طفل الزلفي الذي فقده أهله إلى الأبد في أبشع جريمة يقوم بها جار! فماذا إذن نفعل نحن الوالدين:
- المكاشفة المباشرة مع الطفل والمراهق: نعم، الأمر محرج ومخجل، ولم يسبق لأحد أن تحدث معنا حول ذلك نحن أنفسنا، كما أننا لا نشعر بالراحة عند الحديث عن القضايا الجنسية وما يسبقها وما يصحبها من مشاعر ملتبسة مع الجميع، وليس فقط مع أطفالنا، لكن لا خيار. لنتدرب في غرفنا وأمام المرآة للفظ الكلمات، وكيف نقولها صراحة؛ حتى تكون هناك مكاشفة يعرف الطفل من خلالها ما الذي يمكن أن يحدث له ومتي يشعر بعلامات الخطر، وكيف يطلب النجدة إذا اضطر لذلك، والأهم كيف يكون صريحاً مع الوالدين أو أحدهما على الأقل فيما لو حصل له ذلك، ويشعر بالطمأنينة بوجود عاقل متزن يوفر له العلاج ويحميه من اعتداءات قادمة.
- طبعاً، المدرسة يمكن أن تكون مكاناً آمناً، لكنها - للأسف - ليست كذلك؛ فقد حدثتني الكثير من الأمهات عن قلقهن بشأن بعض من يعمل داخل هذه المدارس، مهما كانت درجاتهم العلمية، وهذا مخيف وصاعق، والذي أعرفه أنه توجد في المدارس العالمية قوانين صارمة تجرم أي نوع من العلاقة مع الطفل أو مع زميل أو زميله طالما يعملان في المدرسة، وتسمى (نو تولارنس بولسي)، وهي خاصة بالعلاقات والمخدرات والعنف. فكلها أمور لا يمكن تحملها في أجواء المدرسة، وأنأ متأكدة أن مدارسنا متى عرفت عن شيء كهذا فهي بلا شك ستتخذ أقصى العقوبات، لكنها سياسة التكتيم والتعتيم؛ حتى لا ينفضح المعلم مثلاً أو الطالب، وتكبر المشكلة، وحرام “بينطرد الموظف” ويفقد رزقه.. إلخ من مسلَّماتنا الثقافية.
- إذن هي في يدك سيدتي الأم، كوني مع طفلك بقدر ما تستطيعين، وافتحيها على البحري مثلما يقولون في حديث صريح وتدريب مستمر، يحمي فلذات أكبادنا من خبرات مدمِّرة نفسياً وعقلياً، ويا ليتني أستطيع أن أستعرض في هذه العجالة نتائج البحوث التي تتحدث عن الآثار السيكولوجية والعقلية وعلى نمو الشخصية لاعتداءات كهذه. أذن، ليس أمامنا إلا أن نقول بصوت جماعي: خذها بيدك، واحم طفلك بوعيه ووعيك.